اتجاهات مستقبلية

الاحتياطي الفيدرالي يقاوم الضغوط

الرئيسية مقالات
مركز تريندز للبحوث والاستشارات

جوهر التأثير والفعَّالية لسياسة رفع سعر الفائدة الأمريكية في محاصرة التضخم يتحدد بالمكانة الدولية التي يحتلها الاقتصاد الأمريكي حالياً

 

 

لا توجد حلول غير تقليدية لمحاصرة التضخم المستشري في السوق الأمريكية؛ هذا هو لسان حال الاحتياطي الفيدرالي حالياً. فبعدما قررت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة رفع سعر الفائدة للمرة الخامسة على التوالي خلال العالم الحالي 2022 لتصبح في نطاق 3.25%، ومن بين بدائل عدة تملكها السياسة النقدية، مازال بنك الاحتياطي الفيدرالي يشهر سلاح الفائدة المرتفعة في وجه الغلاء، إيماناً منه بأن أسعار الفائدة هي الأداة النقدية الكلاسيكية الأعلى جدوى والأكثر فاعلية والأسرع تأثيراً في الحالة الأمريكية الشديدة الخصوصية.

ويبدو أن الاحتياطي الفيدرالي لم يعد يعبأ كثيراً بالضغوط التي تخلقها سياسته للتشدد النقدي، وهو الأمر الذي بات واضحاً في قبوله تحمل الاقتصاد الأمريكي للآثار والتكاليف السلبية لتلك السياسة، مثل آثارها على المديونية الخارجية وعجز الموازنة وحتى تضخم التكاليف، ناهيك طبعاً عن تداعياتها على أسعار الأسهم ومعدلات الاستثمار والتشغيل والتصدير والنمو. وإذا كان الحال كذلك، فإن سؤالين على جانب كبير من الأهمية يطرحهما التأمل في المستقبل القريب للفائدة الأمريكية؛ أولهما يستفهم عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الفيدرالي الأمريكي في رفع الفائدة ومدى قدرته على تحمل تبعاتها المحلية. والثاني يبحث في الآثار الخارجية الانتشارية لهذا النهج الأمريكي وعلاقته بالسياقات الإقليمية والدولية التي تعج بالمشكلات الاقتصادية والسياسية.

على أن رفع الفائدة المتتالي في خمسة من ثمانية اجتماعات عقدتها اللجنة الفيدرالية الأمريكية للسوق المفتوحة سنوياً يعني ببساطة أن الاقتصاد الأمريكي أمام احتمالين؛ فإما ضعف كامن في فعالية هذه السياسة وبطء ملحوظ في محاصرتها للتضخم، أو أن تكاليفها وتداعياتها مازالت في الحدود المقبولة اقتصادياً. وبالنسبة للفعالية، فإن معدلات الزيادة في الأسعار الأمريكية لم تستجب للرفع المتتالي في أسعار الفائدة، بل وفاقت معدلات التضخم التوقعات في الأشهر التالية لرفع الفائدة، وتحديداً في إبريل ومايو ويونيو ويوليو وسبتمبر من العام الحالي؛ ليحلّق معدل التضخم في الأسواق الأمريكية عند أعلى مستوى له في يوليو الماضي حول معدل 9.1%. وكما هو واضح، فإن التشديد النقدي لم يمارس الأثر المتوقع والآنيّ لوقف زحف التضخم على الأسواق الأمريكية.

وفيما يخص تكاليف وأعباء هذه السياسة الساحبة للسيولة الدولارية والضاغطة على الطلب في الأسواق المحلية، ومادامت معدلات البطالة الأمريكية المتزامنة معها والمتأثرة بها متقلبة بين صعود وهبوط، ثم انتهى بها المطاف لنحو 3.7% في سبتمبر الحالي، مقارنة بمعدل 4% عشية اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير الماضي؛ فإن ذلك قد أعطى – ولايزال – للفيدرالي الأمريكي قدرة أكبر على المناورة ومساحة زمنية أكبر للتشدد، لاسيما وأن مؤشرات البطالة وبيانات التوظف الأمريكي لها دور دعائي شديد التأثير في الدفاع عن سياسات الاحتياطي الفيدرالي.

ولعل جوهر التأثير والفعَّالية لسياسة رفع سعر الفائدة الأمريكية في محاصرة التضخم يتحدد بالمكانة الدولية التي يحتلها الاقتصاد الأمريكي حالياً. فعبر هذه المكانة، ومن خلال قنوات التأثير في متغيرات الاقتصاد العالمي وخصوصاً في حجم السيولة الدولية، أمكن للاحتياطي الفيدرالي مقاومة الضغوط وتحمُّل التكاليف التي تنشأ عن الرفع المستمر لأسعار الفائدة المحلية وتصدير جزء منها لأصقاع مختلفة من العالم. إن نظرة سريعة على مؤشر الدولار الأمريكي أمام العملات الدولية كفيلة بتوضيح ذلك.

ذلك أن وضعية الدولار القوي التي تحققت بوصول مؤشر الدولار (مقارنة بسلة عملات دولية) لنحو 112 درجة بعدما كان لا يزيد على 96 درجة في فبراير الماضي، ما هي إلا محصلة طبيعية لتكالب رؤوس الأموال الدولية على الاقتصاد الأمريكي من كل حدب وصوب، إما ثقة منها بالاقتصاد الأمريكي في ظل عالم تعصف به الأزمات، أو للاستفادة من العوائد المرتفعة والخالية المخاطر التي تقدمها السندات الأمريكية. وإذا كانت هذه التدفقات الرأسمالية قد خلّفت وراءها عجوزات ضخمة وصدمات مفاجئة في موازين مدفوعات الاقتصادات المدينة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ فإنها كانت بمثابة العامل الموازن للأداء الاقتصادي الأمريكي مع كل تصاعد حدث في سياسة التشديد النقدي. وبرغم تأثيرها على مؤشرات المديونية، فالماثل الآن أن الدولارات الأمريكية المتدفقة في شرايين السيولة الدولية آن لها أن تعود مؤقتاً لتعين الفيدرالي الأمريكي على مقاومة الضغوط وتناصره في حربه على التضخم.


تعليقات الموقع