مواجهة "كوفيد 19" معركة لا تقل عن تكاليف الحروب الكبرى

“كورونا” وهرم القيادة العالمي

الرئيسية مقالات
جمال الكشكي: كاتب عربي
“كورونا” وهرم القيادة العالمي

لم يكن أحد يتوقع، مهما بلغ من قدرات علمية، أن فيروس «كورونا» سيهز الكرة الأرضية بهذا الشكل.
البشرية تتغير شكلاً ومضموناً. وتيرة الأخبار الصادمة باتت أسرع من الوقت الذي تستغرقه في الكتابة. الضربات متلاحقة. غياب الأحبة يسجل حضوراً كثيفاً في دفاتر قلوبنا، نفتش في أيام العام الجديد عن خبر سار، يعيد إلى البشرية الحياة، وقد اختلت موازين القوى العالمية، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، بفعل الفيروس اللعين الذي لا يرى بالعين المجردة.
شيء محير، لا أحد يمتلك الوصايا، الجميع في ورطة.
الآمال تحدونا بأن يكتب العام الجديد نهاية الفيروس القاتل. العالم يعيد ترتيب أوراقه. أحلام دول كبرى تراجعت، واستراتيجيات تأجلت كثيراً، وحسابات لم تعد صالحة لمثل هذه الظروف.
قطعاً «كورونا» يعيد رسم السياسة الدولية من جديد، حصد ملايين الأرواح، أصاب عشرات الملايين… لا أحد يعرف على وجه الدقة ما الحكاية؟ لكنه من المؤكد أن هناك كثيرين يعرفون أن نتائجه ستكون أثمانها باهظة جداً على مختلف الأصعدة.
على الصعيد السياسي، فإن كُتّاب التاريخ يقولون إن التغييرات الكبرى تأتي من رحم الحروب والكوارث الكبرى. «كوفيد – 19» كارثة بمثابة معبر إلزامي لوجه جديد لخرائط السياسة والاقتصاد عالمياً، فلنتذكر ملامح الصورة التي أعقبت الحربين العالميتين: الأولى والثانية، ونتوقف عند ما خلفته عشرينات وأربعينات القرن العشرين، لنجد أن التغير كان حتمياً لا محالة.
شهدت تلك الحقب خسائر اقتصادية وبشرية، تزامنت مع تغيير جيوسياسي، ترتب عليه صعود قوى وهبوط أخرى. ظهور ثقافات وأفول أخرى. استبدال النفوذ الدولي بتوقيع دول الحلفاء المنتصرة في ساحات القتال أو في فرض أفكارها، وثقافاتها ولغاتها، ومواقفها السياسية الدولية، فهرم القيادة العالمية من المؤكد أنه سيتغير لأن التطورات الاقتصادية، وانعكاساتها على قدرة الدول سيقود إلى تحريك قوى من مكانها هبوطاً وصعوداً.
مواجهة «كوفيد – 19» معركة لا تقل عن تكاليف الحروب الكبرى، بل إنها أكثر تعقيداً، فالعدو هنا غير محدد الملامح، لا تعرف من أين تواجهه، لا تهزمه مناوراتك، ولا تخيفه أسلحتك الثقيلة.
مفارقات التاريخ شاءت أن تسجل توقيت كارثة «كوفيد – 19»، مقترناً بكوارث أخرى، لا تُرى أيضاً بالعين المجردة. فيروس الحرب السيبرانية، وحروب الأجيال الجديدة، فأدواتها وأسلحتها وخططها وأهدافها غير مرئية، ربما تسبب «كورونا» في قتل البشر، لكن الفيروسات الأخرى تهدف إلى قتل الدول.
المفارقة غريبة وعجيبة، تستحق التوقف وعميق التأمل، لا سيما أن بعض دوائر المفكرين والمحللين يختلفون حول ما إذا كانت مصادفة أم مقصودة، الكلام كثير في هذا السياق، قراءة تفاصيله يمكن العودة إليها في توقيت لاحق، لكن الأهم الآن هو قراءة بصمات «كوفيد – 19» على الكرة الأرضية، خريطة العلم والمعرفة سيعاد ترتيبها من جديد. الغلبة ستكون لمن يستطيع امتلاك المعلومات للتصدي لهذه الجائحة. النفوذ والإرادة العلمية بأسبقية الحضور. الدولة التي تقوم بدور «سيارة الإسعاف» في خدمة رعاياها، ستكون موجودة وبقوة على المسرح الدولي، وستحظى بمكانة سياسية وتملك صوتاً مسموعاً.
على صعيد آخر، فإن العالم بات يعاني انحناءات اقتصادية حادة ستترك آثاراً جسيمة.
إذن، نتائج «كوفيد – 19» تعيد بناء نمط مختلف للاقتصاد. النجاح السياسي مرهون بالصعود الاقتصادي، وما دام الأمر كذلك، فإننا أمام مأزق حقيقي، قد تستغرق تداعياته وقتاً طويلاً للخروج منه، فهذا الوباء أصاب الاقتصاد في مقتل، ينعكس ذلك على المشروعات والأفكار السياسية للدول.
اختلطت أوراق جدول أعمال الألفية الثالثة، ما كان في أدراج القصور الرئاسية والملكية لم يعد مناسباً لهذا التوقيت. العبور من عنق هذا العام يحتاج إلى استراتيجيات مبتكرة، تنقلنا إلى رحابة مرحلة جديدة. لا بد من الصبر الاستراتيجي، والتمسك بالأمل، والسعي إلى خروج آمن من ظلال «كوفيد – 19»، فالخسائر حدثت بالفعل. شعوب العالم دفعت الثمن من الأرواح، والممتلكات، والمدخرات، وفقدان الأحبة، والعيش تحت أسوار الذعر والرعب.
علينا أن نتجاسر ونواجه هذا العدو اللامرئي بقوة وعنف، فالانتصار عليه بات قضية حتمية للبقاء، واليأس خيانة مهما بلغت تعقيدات النتائج، فنحن أمام أزمة أفضت إلى تغيير حقيقي في بنية العالم، تغيير يعيشه العالم الآن، له قواعده، وقوانينه وهويته الخاصة.
الدولة التي تستطيع التعايش معه والانتصار عليه، ستجد ملاذها إلى النفوذ الإقليمي والدولي. فوسط ضباب الفيروس، نجد دولاً تراجعت، وأخرى تحاول أن تقفز إلى الأمام، وثالثة ليس لديها خطة واضحة للمواجهة. فالأزمة تزداد عمقاً. الخرائط تضيق على أصحابها. اللاعبون الجدد يحاولون توسيع خرائطهم على حساب الخاسرين في معركة «كوفيد – 19». الصراع مستمر. المهمة ثقيلة، البقاء للأقوى.

من يملك شفرة اللقاحات الآمنة، السريعة المفعول سيحتل مقدمة الصفوف الأولى حول طاولة العالم.
وبالتالي، فإن الدروس المستفادة بالنسبة لنا، نحن العرب، من تجربة العالم مع «كوفيد – 19»، أن تكون لدينا يقظة دائمة بشأن الاستثمار في العلم، والطب، وأن تتوافر لدى الشعوب العربية قنوات لتحصين الوعي، وثقافة الحماية والوقاية، باعتبارها خط الدفاع الأول ضد أي جوائح أو كوارث، وأن تكون لدى العرب استجابة جماعية لحماية الشعوب العربية، سيما أن الدول العربية تمتلك من الأصول والإمكانيات ما يؤهلها لتأسيس «استراتيجية الاستجابة الجماعية» في مواجهة الأزمات. “الشرق الأوسط”

تعليقات الموقع