كيسنجر.. الحاضر الغائب في العلاقات الأمريكية-الصينية

الرئيسية مقالات
مركز تريندز للبحوث والاستشارات

 

اتجاهات مستقبلية

كيسنجر.. الحاضر الغائب في العلاقات الأمريكية-الصينية

 

 

 

كان هنري كيسنجر، المؤسس الحقيقي للعلاقة الأميركية-الصينية في سبعينيات القرن الماضي، قد عبَّر عن أهمية سلامة العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في ازدهار المعمورة واستتباب الأمن والسلام فيها، وأجزَلَ ذلك بنصيحة قالها آنذاك: “إن على الولايات المتحدة والصين ألَّا يهزَّا العالم، بل يبنيانه”؛ ومن المؤكد أن هذه النصيحة لم تفقد قيمتها بعد ما يزيد عن نصف قرن، لا بل إن أهمية استحضارها قد برزت مرات ومرات عبر العقود الماضية التي شهدت تسابقهما للتفوق على بعضهما البعض، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.

وقد ظلت العلاقات الثنائية بين البلدين تنعم بالاستقرار النسبي، منذ تصالحهما عام 1971، إثر موافقة الولايات المتحدة شغل الصين الشعبية لمقعد جمهورية الصين (تايوان حالياً) في مجلس الأمن الدولي. ولم يعكّر صفو هذه العلاقات إلا حادثة اصطدام طائرة استطلاع أميركية بطائرة تابعة للبحرية الصينية فوق جزيرة هاينان في بحر الصين الجنوبي في أبريل عام 2001، فكانت أول أزمة حقيقية تعصف بالعلاقات الأميركية الصينية. ثم تصاعد التوتر في السنوات الماضية بشكل غير مسبوق، وعلى خلفية قضايا عديدة على رأسها جائحة فيروس كورونا، والخلافات التجارية، وقضية حقول الطاقة في بحر الصين الجنوبي، وملف تايوان، وموضوع هونغ كونغ، ومسألة حقوق الإنسان في الأراضي الصينية، خاصة منطقة شنجان ذاتية الحكم.

وتزامن ذلك مع تولي الرئيس السابق دونالد ترامب السلطة، حيث تدهورت العلاقات كثيراً. كما ازدادت القضايا الخلافية بين البلدين حِدَّة وتعقيداً، لاسيما بعد أن ضاعف الرئيس ترامب التعريفات الجمركية على البضائع الصينية ومنَع امتلاك الصين أو مواطنيها، حصصاً أكثر من النصف في أسهم الشركات الأميركية، بل ومنَع حتى تصدير الأجهزة المتطورة في مجالات محددة إلى الصين.

وعقب وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع العام الحالي، لم تخْفتْ حدة التوترات بين البلدين، كما كان يُتوقع، لا بل تصاعدت، حيث سارع بايدن إلى انتقاد انتهاكات الصين لحقوق الإنسان ضد الأويغور، وقمع الاحتجاجات الديمقراطية في هونغ كونغ، وزيادة الضغط العسكري على جزيرة تايوان، إلى جانب عدد من القضايا الأخرى، بينها توسع ترسانة الصين العسكرية، في الوقت الذي اعتبرت فيه الصين ذلك تدخُّلاً من البيت الأبيض في شؤون صينية داخلية.

ورغم ذلك كله، فإن كلا الدولتين لم تنسيا أبداً ما قاله كيسنجر، بل ظلتا تدركان تماماً صحة نصيحته؛ فرغم أن خشيتهما من بعضهما عميقة ولن تزيلها الاتفاقيات، فهما لم تغلقا أبواب التفاهم والتعاون التي تراوحت بين الضيق والاتساع لعقود خلَتْ؛ فالدولتان تؤمنان بأن لا طريق أمامهما سوى التعاون والتفاهم، وتدركان، في الوقت نفسه، أن التقارب يحتاج إلى تنازلات حقيقية من أجل التوصل إلى حلول مرضية للجانبين، ومثل هذه الأمور تتطلب صبراً ومفاوضات مكثفة.

فالصينيون يعلمون جيداً أن الولايات المتحدة مازالت تمسك بزمام معظم أركان القوة في العالم، وهم بحاجة إلى التفاهم والتعاون معها كي يواصلوا تقدمهم الاقتصادي ويتمكنوا من دعم نفوذهم العالمي.والأميركيون يعلمون أيضا أن الصين قوة كبرى ومتنامية لا يمكن تجاهلها، وإن كانت قد تنازلت سابقا في بعض مواقفها، فإنها الآن تمتلك القدرة الاقتصادية والعسكرية على تعزيز مواقفها ودعم اقتصادها ونفوذها.

وعلى هذا، فقد شهدت الفترة القريبة بداية عملية للخروج من دائرة التأزُّم، فكان ثمة سلسلة من الإجراءات الدبلوماسية التي هدفت إلى تهدئة التوترات بين الطرفين،تبعها اتفاقهماعلى الحد من استخدام الوقود الأحفوري، ضمن مؤتمر المناخ الأخير في أستكتلندا، ثم أتى اللقاء الافتراضي الذي عُقد منتصف شهر نوفمبر الحالي بين زعيمي البلدين، وفيه أكد بايدن نصيحة كيسنجر، إذ صرح بأن “العلاقات الثنائية بين البلدين لها تأثير عميق، ليس فقط في البلدين؛ وإنما، بصراحة شديدة، في باقي العالم”.


تعليقات الموقع