لكن ذلك لا يعني إهمال الفوارق بين الهويات لخلق وحدة وإنما محاولة لإبراز التعدد كسمة أساسية في المجتمع

التعددية الثقافية بديلاً لوهم الثقافة الواحدة

الرئيسية مقالات
مركز تريندز للبحوث والاستشارات

 

اتجاهات مستقبلية

 

التعددية الثقافية بديلاً لوهم الثقافة الواحدة

 

 

 

مرّ العالم بالعديد من التطورات الفكرية والسياسية كان آخرها ذلك الانهيار الذي حدث للقطب السوفييتي في نهاية تسعينيات القرن الماضي وترتب عليه ما ترتب، خرجت بعده الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً بقدر كبير من الزهو بانتصارها حضارياً وليس عسكرياً أو سياسياً واقتصادياً فقط، وبدأت تخرج العديد من الكتابات التي تتحدث عن نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية بثقافتها وأفكارها في التحرر الاجتماعي والثقافي تحديداً. إلا أننا نستطيع القول إن المجتمع الدولي، والغربي منه خصوصاً، قد توصل إلى حقيقة بعد عقد كامل من الادعاء سالف الذكر بأنه لا يوجد شيء في العالم اسمه ثقافة واحدة ذات أصول عريقة وما عداها فهم فوضويون يحتاجون إلى إعادة إدماج في ثقافتهم المستنيرة، ومن هنا نشأت الدعوات إلى احترام مبادئ: “تساوي جميع الثقافات”، و”حق الاختلاف الثقافي” و”التعددية الثقافية”، هذه الدعوات نشأت جميعها في قلب الفكر الديمقراطي المعاصر ذاته. ولم تلبث هذه الدعوات أن تطورت شيئاً فشيئاً، وبدأت أفكارها في الانتشار، وظهرت أولى ثمارها متمثلة في الحوار بين الثقافات، وتنمية العلاقات الثقافية بين الدول، ممـا جعل المجتمع الدولي يقبل، ولو على المستوى الخطابي، أن الثقافات البشرية مهما اختلفت، فهي من حيث المبدأ تتساوى فيما بينها، وأنه لم يعد هناك مجال للحديث عن ثقافات بشرية متفوقة في ذاتها، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤسس فضاء للنمو والتفتح والازدهار، في أحضان حضارة إنسانية يُفترَض أنها شاملة لمكوِّنات مُتعددة، ورحبة للجميع، فالتعددية الثقافية هي بمنزلة حوار بين هويات ثقافية مختلفة، ولكن ذلك لا يعني أبداً إهمال الفوارق بين الهويات من أجل خلق وحدة، وإنما هو محاولة لإبراز التعدد كسمة أساسية في المجتمع. فمن شأن ذلك أن يوجد حالة مستدامة من الحوار بين الثقافات، وإيماناً من جانب غالبية أعضاء المجتمع بتعدد ثقافات دون وجود هرمية محدده لثقافة على حساب ثقافات أخرى، مع الاعتراف بالفروق الموجودة بين الثقافات. لقد صار الإقرار بالتعددية الثقافية، ومنها الحق في الاعتراف بالحرية الثقـافية للجميع، والحق في الاستفادة من التراث الثقافي المشترك للبشرية جمعاء، صارت تحتل بالتدريج مكانة أوسع في فضاء العالم المعاصر، إلى حد يمكن القول إن أغلب المجتمعات المعاصرة ستكون مجتمعات متعددة الثقافات. وسيتحول السؤال من ” هل يجب قبول التعددية الثقافية أم رفضها”، إلى: “إذا كان من اللازم التسليم بمبدأ التعددية الثقافية، فإلى أي حدود؟”.

إن الاختلاف بين الكيانات والثقافات البشرية الموجودة في عالم اليوم، واقع حقيقي يصعب غَضُّ الطرف عنه. وواقع حقيقي كذلك، أن هناك اختلافات فعلية، نسبية ومتفاوتة في الحِدَّة والدرجة، توجد حتى داخل المجموعات الثقافية التي تربطها علاقات القرابة أو الجوار، بل حتى داخل الكيان الثقافي الواحد نفسه الذي يُفترض أنه منسجم ومتجانس. وهو الأمر الذي يفرض على البشرية جمعاء ضرورة الاصطفاف خلف ثقافة متسامحة تؤمن بالتعددية على المستوى الوطني أولاً كمدخل لتبنّيها على المستويات الثقافية والاجتماعية دون إفراط في التفاؤل بنتائجها على الأمد القصير، أو تفريط في خصوصية كل هوية واحتفاظها بسماتها المميزة لها عن أي هوية أخرى في مناخ من التسامح والقبول بالاختلاف مهما كان نوعه وحدته واتجاهه.


تعليقات الموقع