كانت ظاهرة «تأثير أونرو» تُعتبر خفيةً بالنسبة لنا.. لكنَّنا قد نتمكن من رؤيتها قريباً في التجارب المعملية

فيزيائيون يكتشفون طريقةً بديلة مختصرة لرؤية وهجٍ كميٍّ عصيٍّ على الرؤية

الرئيسية مقالات
جوانا تومبسون:صحفية علمية

 

فيزيائيون يكتشفون طريقةً بديلة مختصرة لرؤية وهجٍ كميٍّ عصيٍّ على الرؤية

 

 

 

 

 

تعج الفيزياء النظرية بمفاهيم غريبة وعجيبة، منها على سبيل المثال لا الحصر الثقوب الدودية، والرغوة الكمية، والأكوان المتعددة، المشكلة أنَّه بينما تتجلَّى مثل هذه المفاهيم بسهولة في معادلات واضعي النظريات، يستحيل عمليًّا إنشاؤها وتجربتها في المختبر، إلَّا أنَّنا ربما نكون قد أوشكنا على استحداث طريقةٍ لتجربة إحدى هذه النظريات “غير القابلة للاختبار”.

إذ يقول باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة ووترلو بمدينة أونتاريو الكندية، إنَّهم توصلوا إلى طريقةٍ لاختبار «تأثير أونرو»، وهي ظاهرة غريبة يُتوقع أنَّها تنشأ من الأجسام المتحركة عبر الفضاء الفارغ، وإذا استطاع العلماء رصد هذا التأثير، فقد يؤكد هذا الإنجاز العظيم بعض الافتراضات المطروحة منذ أمدٍ بعيدٍ حول فيزياء الثقوب السوداء، وقد نُشِر مُقترح هؤلاء الباحثين في دورية «فيزيكال ريفيو ليترز» Physical Review Letters بتاريخ الحادي والعشرين من أبريل.

لو رأيت «تأثير أونرو»، فقد يبدو لك شبيهًا بالانطلاق عبر الفضاء الفائق على متن مركبة «ميلينيوم فالكون» الخيالية الشهيرة في سلسلة أفلام «حرب النجوم»؛ إذ سترى تدفقًا مفاجئًا لأشعة الضوء يغمر رؤيتك لِما كان سيبدو فراغًا أسود لولا هذا الضوء، فوفق هذه الظاهرة، عندما يتسارع جسمٌ في الفراغ، يصبح مغطىً بعباءةٍ دافئة من الجسيمات المتوهجة، وكلما زاد تَسارُعه، صار ذلك الوهج أكثر دفئًا، وعن هذا يقول فيفيشك سودير، أستاذ فيزياء الكم في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأحد المشاركين في تأليف الدراسة: “هذا غريب للغاية”؛ لأنَّ الفراغ من المفترض به أن يكون خاليًا تمامًا بحكم تعريفه، وتابع: “فمن أين أتى هذا الوهج إذًا؟”.

يرتبط مصدر هذا الوهج بحقيقة أنَّ ما يُسمى بالفضاء الفارغ ليس فارغًا إطلاقًا، بل تنتشر خلاله مجالاتٌ كميةٌ متداخلةٌ لها طاقة، ويمكن أن تُسفر التقلبات في هذه المجالات عن إنتاج فوتوناتٍ وإلكتروناتٍ وجسيماتٍ أخرى، ويمكن كذلك أن تثير الأجسام المتسارعة تلك المجالات، ومن حيث المبدأ، يمتص الجسم المُتسارِع عبر فراغٍ مُشبَّع بالمجالات الكمية جزءًا من طاقة هذه المجالات، لتنبعث هذه الطاقة لاحقًا في صورة “إشعاع أونرو”.

هذا التأثير سُمِّي هكذا نسبةً إلى أستاذ الفيزياء النظرية بيل أونرو، الذي وصف تلك الظاهرة في عام 1976، لكن هناك باحِثَيْن آخرين توصَّلا كلٌّ على حدة إلى صيغتها الرياضية في عامي 1973 و1975، أي قبل وصف أونرو لها بفترةٍ لا تزيد عن 3 سنوات، وهُما أستاذ الرياضيات ستيفن فولنج، وأستاذ الفيزياء بول ديفيز.

وعن هذا يقول ديفيز، الذي صار الآن أستاذًا عضوًا في مجلس جامعة ولاية أريزونا: “أتذكر الأمر بوضوح، لقد أجريتُ الحسابات وأنا جالسٌ على أريكة زوجتي، لأنَّني لم أكن أملك مكتبًا ولا غرفة مكتب”.

بعد ذلك بعام، التقى ديفيز بأونرو في مؤتمرٍ كان الأخير يُلقي فيه محاضرةً عن اكتشافه الحديث، فتفاجأ ديفيز حين سمعه يصف ظاهرةً مشابهةً جدًّا لما كان قد توصَّل إليه بنفسه من حساباته التي أجراها على تسريحة بيته، ويتذكر ديفيز ذلك الحدث قائلًا: “وهكذا التقينا في قاعة المشروبات بعد ذلك”، ثم سرعان ما أقام الاثنان تعاونًا استمر عدة سنوات.

تعامل كلٌّ من ديفيز وفولنج وأونرو مع أبحاثهم بطريقةٍ نظرية بحتة؛ إذ لم يتوقعوا قَط أن يُصمِّم أي شخصٍ تجربةً واقعيةً لها، لكن مع تقدم التكنولوجيا، قد يصبح من الممكن رصد الأفكار التي كانت مقصورةً في الماضي على عالم النظريات، مثل موجات الجاذبية، وبوزون هيجز، ووفق ما تبيَّن، فإنَّ رصد «تأثير أونرو» يمكن أن يساعدنا في ترسيخ مفهومٍ فيزيائي استثنائي آخر.

فيقول كريستوف آدامي، أستاذ الفيزياء والفلك والبيولوجيا الجزيئية في جامعة ولاية ميشيغان، والذي لم يشارك في البحث: “الباحثون يجربون «تأثير أونرو» لا لأنَّهم يعتقدون أنَّ هناك أهميةً كبيرةً لأجهزة الرصد المتسارعة، ولكن بسبب علاقته المباشرة بفيزياء الثقوب السوداء”.

فظاهرة «تأثير أونرو» بالأساس هي الوجه الآخر لظاهرةٍ فيزيائية تحظى بشهرةٍ أكبر منها بكثير، وهي ظاهرة «إشعاع هوكينج»، التي سُميت باسم الفيزيائي ستيفن هوكينج، الذي طرح أنَّه من المفترض أن تنبعث تدريجيًّا هالةٌ ضوئيةٌ غير ملحوظة تقريبًا من الثقوب السوداء في أثناء تلاشيها ببطء.

وفي حالة «إشعاع هوكينج»، ينتج بالأساس هذا التأثير الدافئ غير الواضح من انجذاب الجسيمات إلى الثقب الأسود بفعلِ قوة الجاذبية، لكن في حالة «تأثير أونرو»، تنتج الظاهرة عن التسارُع، الذي يُعَد المكافئ الرياضي للجاذبية، وفقًا لمبدأ التكافؤ الذي وضعه أينشتاين.

فلتتخيل مثلًا أنك تقف في مصعد، حين تندفع مقصورة المصعد إلى الطابق التالي، تحدث مع حركتها هزةٌ مفاجئة، وتشعر للحظةٍ بأنَّك منجذبٌ نحو الأرض، وفق سودير، هذا الانجذاب بالنسبة لك “لا يمكن التمييز بينه وبين التزايُد المفاجئ لقوة جاذبية الأرض”.

وتابع سودير أنَّ الفكرة هي ذاتها من منظور الرياضيات، موضحًا: “الأمر بهذه البساطة: يوجد تكافؤ بين الجاذبية والتسارع”.

وبالرغم من شُهرة ظاهرة «تأثير أونرو» من الناحية النظرية، لم يرصدها العلماء فعليًّا بعد (بل لم يستطيعوا رصد «إشعاع هوكينج» أيضًا حتى الآن)، وذلك لأنَّ الباحثين طالما اعتقدوا أنَّ تجربة هذه الظاهرة عمليًّا مسألةٌ صعبة للغاية؛ ففي معظم الظروف، سيحتاج الباحثون لتجربتها إلى تسريع جسمٍ بمعدلاتٍ هائلة غير معقولة، تزيد عن قوة الجاذبية الأرضية بخمسةٍ وعشرين تريليون مليون مرة، وذلك كي ينتجوا انبعاثاتٍ قابلةً للقياس، وهناك طريقةٌ بديلة، وهي أن يُسرِّع الباحثون جسمًا بمعدلات تسارُع معقولة يُمكن الوصول إليها بسهولةٍ أكبر، لكن في هذه الحالة ستقل كثيرًا احتمالية توليد تأثيرٍ قابل للرصد، إلى درجة أنَّهم قد يحتاجون إلى الاستمرار في إجراء التجربة لمليارات السنين، غير أنَّ سودير وزملاءه المشاركين معه في البحث يعتقدون أنَّهم قد وجدوا ثغرةً لتنفيذ الأمر.

إذ توصلوا إلى أنَّهم لو حصروا إلكترونًا واحدًا في فراغٍ فيه مجالٌ مغناطيسي، ثم سرَّعوا هذا الإلكترون باستخدام وابلٍ مُشكَّل بعناية من الفوتونات، فسيستطيعون إثارة الإلكترون اصطناعيًّا إلى مستوى طاقة أعلى، وهذه الطاقة المُضافَة تُضاعِف تأثير التسارُع، ما يعني أنَّ الباحثين يستطيعون باستخدام الإلكترون نفسه كمُستشعر أن يرصدوا «إشعاع أونرو» المحيط به، دون الحاجة إلى تعريضه لقدرٍ هائل من قوى التسارُع أو الاضطرار إلى الانتظار دهورًا.

لكن، مع الأسف، فإنَّ وابل الفوتونات المُعزِّز للطاقة هذا يُضيف كذلك قدرًا من الضوضاء في الوسط المحيط بالإلكترون، عن طريق تضخيم تأثيرات المجالات الكمية الأخرى في الفراغ، وهذا بالتحديد ما لا يريده سودير وزملاؤه، حسبما أوضح، لكن بالتحكم الدقيق في مسار الإلكترون، قد يستطيع مَن يُجرون التجربة إبطال تأثير هذا التداخُل المحتمل، وهي عملية يرى سودير أنَّها تشبه إحاطة الجسيم بعباءة إخفاء.

ووفق الباحثين، فمحاكاتهم هذه لظاهرة «تأثير أونرو» يمكن إجراؤها في معظم المختبرات الجامعية، فهي لا تحتاج إلى أدواتٍ ومعداتٍ معقدة كتلك اللازمة لمعظم تجارب فيزياء الجسيمات المتطورة الأخرى، مثل المغانط العملاقة فائقة التوصيل، ومسارات الجسيمات الممتدة لمسافاتٍ طويلة كما في مصادم الهدرونات الكبير بمختبر «سيرن»، وتقول باربرا شودا، الباحثة المشاركة في تأليف الدراسة، وأستاذة الفيزياء في جامعة ووترلو: “ليس ضروريًّا أن تكون تجربةً ضخمة”، وفي الواقع، يعمل حاليًّا سودير وطلابه ممن هم في مرحلة الدكتوراة على تصميم نسخةٍ من التجربة يعتزمون تنفيذها بالفعل، ويأملون تشغيلها في السنوات القليلة المقبلة.

ويرى آدامي أنَّ هذا البحث الجديد توليفةٌ مبتكرة من تخصصاتٍ مختلفة عديدة، تتضمن الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الذرية ونظرية المجالات الكمية، ويقول عن استنتاجات الورقة البحثية التي نشرها الفريق: “أظن أنَّها صحيحة”، لكنَّه أضاف أنَّ حساباتهم “من الواضح أنَّها أُجريت من قبل”، مثلها مثل «تأثير أونرو» نفسه، فالباحثون وصفوه في الماضي.

وبالنسبة لديفيز، فإمكانية تجربة هذا التأثير يُمكن أن تفتح أبوابًا جديدةً مثيرةً في الفيزياء النظرية والتطبيقية، فهي قد تؤكد لنا صحة الظواهر التي تنبأ بها واضعو النظريات، لكنَّها تكاد تكون غير قابلةٍ للرصد، وقد تزيد التجربة أيضًا من الأدوات والمعدَّات المتاحة التي يمكن أن يستخدمها المُجَرِّبون لدراسة الظواهر الطبيعية، ويقول عن ذلك: “ما يجعل الفيزياء مجالًا فعالًا إلى هذه الدرجة أنَّ الجانبين التجريبي والنظري منها مرتبطان معًا إلى حدٍّ كبير؛ فبينهما توافقٌ تام”، وتجربة «تأثير أونرو» من المحتمل أن تكون إنجازًا عظيمًا في كليهما.عن “سانتافيك اميريكان”

 


تعليقات الموقع