يعتمد شات جي بي تي في إنشاء نصوصه على أنماط محددة ولا يفرق بين الواقع والخيال أو الحقيقي والمزيف

“شات جي بي تي” .. وجه الذكاء الاصطناعي الأحدث

الرئيسية مقالات
أحمد سمير سعد:صحفي علمي
6874-etisalat-postpaid-acquisition-promo-2024-728x90-ar

 

“شات جي بي تي” .. وجه الذكاء الاصطناعي الأحدث

 

 

 

فور أن يتحدث أحدهم عن تقنية جديدة في الذكاء الإصطناعي، أسترجع ميراثا طويلا من روايات وأفلام ومقالات وإفادات تتأمل في مستقبل الذكاء الصناعي وتحاول أن تفك الالتباس القائم بينه وبين والوعي البشري، يحذر بعضها من أن البشر على أعتاب كارثة قد تطيح بكل تفرد بشري، إذ قد يتخطى الذكاء الإصطناعي حدود الذكاء البشري ويصل إلى القدرة على الوعي بالذات، وربما التحكم في العالم وإخضاعنا أو ربما إفنائنا.

وفي المقابل يطمئننا البعض أن ذلك أمر مستحيل الحدوث، وأن الآلة لن تتمرد يوما على مصنعها، بل يؤكد بعضهم على أن الذكاء الإصطناعي لن يصل أبدا إلى الوعي بذاته والسعي من أجل رغبات خاصة أو تصورات من لدنه!.

راودتني هذه الأفكار عندما عرفت عن شات جي بي تي ChatGPT لأول مرة. عرفت أنه ذكاء إصطناعي شديد التطور متخصص في معالجة النصوص، يفهمها ويدبج ردودا مناسبة. إلى هنا تبدو الأمور عادية نوعا ما، لقد عاصرنا بالفعل عددا من الذكاءات الإصطناعية التي تحاول أن تؤدي مهاما كتلك مثل “سيري” وغيرها. إلا أنني سرعان ما أدركت أن الأمر مختلف، يستطيع “شات جي بي تي” أن يكتب القصص والشعر بل ظهرت مقالات علمية باسمه، وأسهم في تأليف كتب علمية، وأخيرا ظهر كتاب يحمل عنوان “الحياة الداخلية لذكاء اصطناعي: مذكرات من تأليف: شات جي بي تي. The Inner Life of an AI: A Memoire by ChatGPT. إنه يكتب ذكرياته أيضا.. يا للهول!

أهلا.. كيف حالك؟

يتبع مشروع شات جي بي تي، شركة أوبن إيه آي OpenAI، وهي شركة غير هادفة للربح، تسعى إلى تطوير الذكاءات الاصطناعية وكما طرحت “شات جي بي تي” للاستخدام العام، طرحت كذلك دال.إي تو DALL.E 2، وهو برنامج يقوم بتخليق رسومات بناء على طلب المستخدمين، اكتب له وصف الصورة التي ترغب فيها، هل تريدها واقعية أم سيريالية أم انطباعية أم غير ذلك، ما العناصر التي تريدها وألوانها، وكلما زادت تفاصيل الأوصاف التي تريدها منه، اقتربت الصورة مما تريد، وازدادت قدرة البرنامج على إبهارك.. كما يمكنك بعد إنتاج الصورة أن تغير فيها مستعينا به.

عندما تدخل الموقع الخاص بالشركة تجد في صدره المهمة التي يقول مؤسسو الشركة أنهم أنشأوها من أجلها.

“يتمثل هدف أوبن إيه آي في ضمان استفادة البشرية بأكملها من الذكاء العام الإصطناعي – ونقصد به الأنظمة شديدة الاستقلالية التي تفوق في أدائها البشر في أغلب الأعمال ذات القيمة الاقتصادية” .

اعتقدت أن أفضل وسيلة للتعرف على ذلك الذكاء الإصطناعي بالحديث إليه وتجربته مباشرة. وكما كان منع البرنامج في العديد من الدول مثيرا للدهشة ومتناقضا مع الهدف الذي تعلنه الشركة – استفادة البشرية بأكملها، كان عدد الذين استطاعوا تخطي هذا المنع والوصول للبرنامج في هذه الدول مثيرا أيضا للدهشة، في الحقيقة امتلأت شبكة الإنترنت بالعديد من الفيديوهات والمقالات التي تشرح السبيل إلى تخطي هذا الحجب، وهو أمر معقد بعض الشيء لكنه ممكن. من جانبي:

بدأت أول حواراتي مع الذكاء الإصطناعي قائلا: “أهلا.. كيف حالك؟”

“أهلا! لست إلا برنامج كمبيوتر، لذلك لا أمتلك مشاعر، لكنني هنا كي أساعدك في أي شيء تحتاج إليه. كيف يمكنني أن أعاونك اليوم؟”

تكلم حتى أراك!

عندما انتشرت الأخبار عن قدرة “شات جي بي تي” على كتابة مقالات علمية، لا يفرق العلماء بينها وبين النصوص البشرية الأصلية، قال البعض إن اللحظة التي يجب أن يخشى منها البشر قد جاءت، وأضاف البعض الآخر أننا أمام الجيل الأول من سلالة إلكترونية قد تسيطر على العالم. في حين، هرع البعض الآخر إلى محاولة إجراء اختبارات تثبت فشل هذا الذكاء الإصطناعي في محاكاة البشر، مقللين من شأنه تماما وساخرين من قدراته.

في الحقيقة شغل هذا الأمر البشر منذ فجر تاريخ ظهور تقنيات الذكاء الإصطناعي. صمم آلان تورنج، أحد رواد أبحاث هذا المجال، اختبارا شهيرا ما زال مستعملا إلى اليوم، يهدف إلى اختبار ما إذا كانت الآلة قادرة على محاكاة الذكاء البشري. يقوم الاختبار على طرح الأسئلة على بشري وعلى الآلة في الوقت ذاته، تتجمع الإجابات عند شخص ثالث، يحاول أن يجتهد في تمييز ردود الآلة من ردود البشري، إذا فشل في ذلك، تعتبر الآلة قد اجتازت اختبار تورنج. تنجح الآلة بالطبع مع الحسابات والأسئلة المباشرة لكنها تفشل غالبا إذا سألناها أسئلة رمزية أو تحتاج إلى حدس أو تتعمد التضليل. أود أن أشير إلى أن الذكاء الإصطناعي الذي ينجح في اختبار تورنج، استطاع بالكاد أن يحاكي الذكاء البشري لكنه لم يتمتع بهذا الذكاء بعد، فهو ما يزال غير واعٍ بذاته وما يزال لا يعرف الإرادة والرغبة، الأدهى أنه على الأغلب لا يفهم كذلك الأسئلة والإجابات ولا يعرف ما الذي تعنيه ولا تمثل له أي شيء بخلاف مجموعة من الاستجابات التي جرى تعزيزها لديه، لا أكثر.

سأل أحدهم “شات جي بي تي”: “لأم سامح أربعة أبناء، أماني ورامي وأحمد. ما اسم الابن الرابع؟”

اعتذر “شات جي بي تي” بأدب معللا ذلك بأن اسم الابن الرابع ليس ضمن المعطيات”.

قد يعتبر البعض هذا فشلا ذريعا ويسخر من ذلك الذكاء الإصطناعي الذي يدَّعون أنه على وشك الإطاحة بالبشر والهيمنة على العالم، لكنني ضد هذه السخرية، لا يسعى “شات جي بي تي” إلى اجتياز اختبار تورنج ولم يصمم لذلك.

عندما لاحظت جدية إجاباته الشديدة وإصراره على التذكير بأنه برنامج كمبيوتر لا أكثر سألته: “لماذا لا تحاول أن تتظاهر بأنك بشري؟”

“كنموذج لغوي، هدفي الأولي توليد نص مشابه للنصوص البشرية . ومع ذلك، فإن التظاهر بأنني بشري يتجاوز هذا الهدف، كما سيكون مضللا”.

يتسامي “شات جي بي تي” عن ممارسة لعبة التشبه بالبشر ومجاراة “التريند” من هذه الناحية، بل يصب كل تركيزه على فهم ما يُطلَب منه وتوليد نصوص تناسب هذه المطالب دون لف أو دوران أو مواربة أو إقحام حس فكاهي مميز للبشر. إنه أداتي جدا، ومن يفهم ذلك ويتخلى عن صورة الآلة الواعية بذاتها التي توشك على احتلال العالم والتي تمتلك ذكاء بشريا، سوف ينجح في استخدامه ويذهل من قدراته!

يستطيع شات جي بي تي، فهم اللغة وتوليد النصوص وترجمتها من لغة لأخرى وتلخيص النصوص واستكمال نص ناقص والانخراط في محادثة والتعرف على الأساليب وتحليل المشاعر التي تحملها كلمات النص وتصنيف النصوص… إلخ.

بل نجح البعض في جعله يحل مسائل حسابية (لا يأتي دائما بحلول صحيحة، لكنه لم يُعَدّ لذلك بالأساس) كما يكتب الشفرات (مثل أكواد تصميم موقع إلكتروني) ويصحح الأخطاء التي تصيب تلك الشفرات.

شات جي بي تي عالِما

جربت أن أسأل “شات جي بي تي” سؤالا في عمق تخصصي، سؤالا في صورة لغز، غير مباشر. سألته عن الغازات الخاملة inert gases التي قد تستخدم في التخدير؟ وراعتني الإجابة. قال أكسيد النيتروز (غاز الضحك) والزينون. الأول غاز خامل نسبيا قد لا تتبادر خاصيته هذه إلى أذهان الكثيرين والثاني غاز غير مستخدم في المؤسسات الطبية لأسباب تتعلق بصعوبات في الإنتاج وغيرها.  ثم بدأ يكتب عن الاثنين وعندما سألته مستوضحا بعض النقاط، واصل الكتابة ببراعة شديدة، تنم عن معرفة واسعة.

هنا قررت أن أنقل اللعبة إلى مرحلة أعلى.

لا يستقي شات جي بي تي، معلوماته التي يكتب منها من شبكة الإنترنت، فهو غير متصل بها على هذا النحو وتعود أحدث بياناته إلى عام 2021، إلا أن في مقدورك أن تمده بما شئت من البيانات كي يستخلص منها ما تريد ويستقي منها نصوصه.

طلبت منه أن يكتب لي دراسة بعدية Meta-analysis في موضوع محدد في تخصصي، والدراسة البعدية واحدة من أرقى وأصعب الأبحاث، إذ تقارن بين مختلف الأبحاث التي أجريت في موضوع ما، لتخرج باستنتاج محدد منها جميعا، إنها دراسة الدراسات. أخبرني أنه يستطيع لكن الدراسة البعدية تحتاج إلى خبراء، قادرون على تحليل مختلف الأبحاث والمناهج البحثية والنتائج الإحصائية ونقد ذلك كله. بدا كأنما يتحسس خطاه. بدأ يشرح لي أنه قد يساعدني مع المقدمة والجزء الخاص بالمنهج والمناقشة، كان كأنما يُقَسِّم العمل إلى مراحل ويخبرني ما يستطيع تقديمه في كل مرحلة. أدركت حينها أنه ليس باحثا ولا يمتلك تفكيرا نقديا لكنه محرر للنصوص، ربما تستطيع أن تمده بالخطوط العريضة التي ينطلق منها وتتركه ليكتب ثم تراجع ما كتب وتعدل فيه وتضيف آراءك النقدية.

يعتمد شات جي بي تي في إنشاء نصوصه على أنماط محددة ولا يفرق بين الواقع والخيال أو الحقيقي والمزيف! لكنك تستطيع التغلب على ذلك بالتأكيد إذا أمددته ببيانات موثوقة وإذا عرفت حدود قدراته، وهي الأمور التي يؤكد عليها مرارا وتكرارا حتى تكاد تمل منه.

” إن قدراتي محدودة بحدود البيانات التي دربوني عليها وقد تكون معلوماتي غير مواكبة للمستجدات. يمكنني توليد نصوص قائمة على الأمثلة التي تعرضت لها أثناء تدريبي وما تلقنني به. ومن المهم لفت الانتباه إلى أن النص الذي أولده يجب أن يراجعه بأكمله متخصصون بشريون وأن يتأكدوا من الحقائق الواردة فيه، قبل أن يستخدم من أجل هدف رسمي أو مهم مثل نشر ورقة بحثية.” … شات جي بي تي

شات جي بي تي أديبا

طلبت من شات جي بي تي أن يكتب لي شعرًا! هكذا طلبت طلبا عاما تماما، لم أحدد له أسلوبا أو نمطا معينا. لكنه كتب مع ذلك قصيدة تبدأ بالبيت التالي:

“تهمس الرياح بالأسرار للشجر…”

أضاف أنني أستطيع أن أطلب منه أن يكتب وفق أسلوب شعري معين أو عن موضوع محدد.

سألته، “لماذا اخترت هذا الأسلوب؟”

أفاد أنه اختار أن يكتب شعرا متحررا من الوزن والقافية لأنه يمنح الشعراء قدرة أكبر على التعبير عن أنفسهم وتبليغ رسالاتهم. كتب عن الطبيعة لأنها موضوع كلاسيكي، يجد فيها الشاعر السلوى والجمال.

شعرت هنا كذلك أنني بحاجة إلى أن أنقل التحدي إلى مستوى أعلى، لذلك سألته إذا كان قادرا على نقد شعره.

كتب لي أنه كنموذج لغوي لا يمتلك آراء شخصية، لكنه مع ذلك يستطيع أن يحلل القصيدة موضوعيا.

تحدث عن موضوع القصيدة وعن الأسلوب، بل اجتهد في توضيح بساطة البنية واتساقها، بل أوضح أن استخدام بعض المفردات يسهم في بث الشعور بالسكينة في قراءة النص، ولم يتورع أن يضيف أن البنية ساعدت في خلق شعور بالتقدم والحركة، وهو ما يضيف إلى الإحساس العام بالسلام في النص..يتبع.عن “ساينتافيك أميريكان”


تعليقات الموقع