للتعامل مع الموضوعات الفكرية تحتاج إلى أشياء عديدة متعلقة بالمفكر أو الكاتب نفسه منها: المشاعر والانفعالات بأبعادها المختلفة؛ لأنه مهما أدعى الكاتب بالموضوعية إلا أن مشاعره وأحاسيسه تبان في فكره، حتى لو كتابياً لذلك وجد علم ما يعرف بتحليل المضمون ولأن تلك المشاعر مهمة لتوصيل رسالة المفكر وتُعرف تلك الانفعالات عند أصحاب مهنة الكتابة: بـ”روح” الكاتب وبدونها يفقد المقال نكهته.
ما دعاني إلى أن أكتب في هذا الموضوع أني تابعت حلقة في برنامج “بودكاست” يقول فيه الضيف إنه بالإمكان الاستغناء عن الكثير من المهن التي لها علاقة بالتفكير “وهذا أمر يدركه الكثيرون” ومن تلك المهن كاتب المقالات حيث يمكن الاستعاضة عنهم باستخدام برنامج “الشات جي بي تي” القادم الجديد في هذا المجال ويتم الاستعانة به الآن ومع أن هذا الحديث ليس جديد، إلا أنه بدأ يتردد وبقوة لدرجة أنه يمكن أن نسميها “ظاهرة”.
أظن أن صاحبنا غابت عنه الفكرة الأساسية أو الهدف النهائي من كتابة المقال وهو: الفكر وركز فقط على البعد المادي في الموضوع دون تفكير في الرسالة التي تحملها المقالة، وأنا أجد له العذر فنحن في عصر يمتاز بصفتين “التسليع” وهو تحول كل شيء لأن يقاس بالمادة والصفة الثانية “الاستسهال” أي أنه حتى الفكر لم يعد بتلك الصعوبة في زمن “الشات جي بي تي”. فهدف المقالة في نظري هو: إما توعية الرأي العام إلى قضايا وطنية، أو توجيه هذا الرأي العام لخدمة أهداف إنسانية كبرى، وهي مسائل بقدر بدون عواطف ومشاعر الكاتب فإنها تبدو الرسالة مبتورة وغير مؤثرة.
هناك شيء كشفه لنا هذا الضيف المؤيد لمقالات “الشات جي بي تي” وهو: أنه ساعدنا في معرفة الأسباب التي تقف وراء عزوف الإنسان العربي عن القراءة وهي فقدان شخصية الكاتب وفكره في المقال أو الكتاب الذي بين يديه وهذه مسألة مهمة، لأنه في المقابل يقرأ الكتب الأجنبية أو المترجمة من اللغات الثانية، ربما قائل إن تراجع القراءة في العالم العربي يعود إلى ما قبل “الشات جي بي تي”، وهذا صحيح، ولكن المقصد هنا أن القارئ العربي لديه القدرة على الفرز بين المقال أو الكتاب الجيد والكتاب الذي لا يضيف جديداً لأن “فكر” الكاتب غير موجود.
فالقارئ يعزف عن قراءة الكتب التي محتواها يفتقد إلى الإضافة وينطبق الحال على المقال وكل فعل كتابي، فغياب روح المؤلف في المكتوب يزعج القارئ ويجعله لا يكمل القراءة، هكذا أعتقد، ومع أن الكتابة أصبحت مهنة، بل سلعة تدر دخل للبعض إلا أنها في الأصل هي عبارة عن “استفزاز فكري” للكاتب نتيجة لقراءة أو حوار أو تأمل، وفي أحيان كثيرة لا يسعف الكاتب خياله لأن تنضج الفكرة فيحتاج إلى حوار ملهم له كي تتشكل الفكرة وترى النور.
وبالنسبة لي كثيراً ما أستعين بكتب الدكتور زكي نجيب محمود الذي يُصنف واحداً من الفلاسفة العرب ولديه العديد من المؤلفات قرأت عدد منها مثل: حصاد السنين، وأسس التفكير العملي، حيث أرجع إلى كتبه عندما تصعب عليّ محاولاتي في البحث عن فكرة لكتابة المقال، وبالتالي بالإمكان القول بأن كتبه ملهمة لي من ناحية إثارة تفكيري وتحفيز لتكوين فكرة مقال. وأعمل بهذه الطريقة مع الكثير من كتب المفكرين وأظن أن مثل هذا الأمر يحدث مع غيري من كتاب المقالات، باعتبار الكتب والقراءة بشكل عام هي: زاد التي نستعين بها للكتابة.
بوجود برنامج “الشات جي بي تي” بدأ ينتشر اعتقاد بين الناس بأن هذا المفكر الإلكتروني قادر على كتابة مقال تحليلي كامل وربما يفوق في قدراته المفكر الإنسان، ولكن لا يدري بأن ما يكتبه يفتقد إلى المشاعر التي هي جزء أساسي من روح المقال.
من المقولات الخالدة التي قراءتها أو شاهدتها في إحدى المقاطع التلفزيونية وبقيت عالقة في ذهني عبارة للأديب السوداني الراحل الطيب صالح صاحب رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” قال معلقاً “بتهكم” على تصرفات البعض من البشر: في ثقافتنا هناك إبداع فكري ويجب احترامه، ولكن يبدو في الطرف الآخر من هذا الإبداع من يحوله لأن يكون ذلك الإبداع إلى: “بدعة” بسبب سوء استخدامنا لذلك الإبداع.
بلا شك برنامج “الشات جي بي تي” إبداع، ولكن إذا أحسنا استخدامه، ولكن لو تركناه ليُسيّر حياتنا سيريحنا من التفكير إلى درجة نكون عاجزين عن ممارسة أبرز عملية يختلف فيها الإنسان عن غيره من المخلوقات.
الصحافة والأعلام بشكل عام هو باب كبير وعظيم للمفكرين وحتى للفلاسفة فالكثيرين اشتغلوا وما زال بعضهم يعمل في الصحافة وفي كتابة المقالات وبالتالي الكاتب البشري هو الأصل حتى ولو أدخلت الكثير من الأدوات المساعدة ستبقى عاجزة عن الوصول إلى قدرات الإنسان.
ما أريد قوله في كل ذلك أنه علينا الاستفادة من الأدوات الجديدة في تطوير مخرجاتنا الفكرية، ولكن من المهم عدم الاستعاضة أو استبدال الآلة عن الإنسان في المجالات الفكرية حتى ولو كان في مقال بسيط لأن الفكر هو الاختلاف بين الإنسان وباقي الأشياء.
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.