اتفاقية حظر التجارب النووية والشرق الأوسط

الرئيسية مقالات
نبيل فهمي:وزير الخارجية المصري الأسبق
اتفاقية حظر التجارب النووية والشرق الأوسط

 

اتفاقية حظر التجارب النووية والشرق الأوسط

 

 

أبرزت التطورات الأخيرة مجددًا تقلب مشهد الانتشار النووي في الشرق الأوسط. فقد أعادت الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد البرنامج النووي الإيراني، وقرار إعادة فرض العقوبات من قبل الأعضاء الأوروبيين في خطة العمل الشاملة المشتركة، إثارة المخاوف بشأن الانتشار النووي المحتمل، ولا يزال البرنامج النووي الإسرائيلي وهو البرنامج الوحيد في المنطقة خارج إطار معاهدة منع الانتشار النووي، غائبًا بشكل واضح عن التدقيق.

يُعد الشرق الأوسط منطقة تتقاطع فيها الحضارات القديمة مع الجغرافيا السياسية الحديثة، منطقة ذات تراث ثقافي عريق، وثروات هائلة، وصراع دائم يتسم بانعدام ثقة عميق وبالعديد من المعضلات الأمنية. يكمن في جوهر هذا الصراع المستمر تحدي أمني هو الأكثر إلحاحًا، وفي ظل جوارٍ يتسلح فيه الخصوم، كيف يمكن لأية أية دولة أن تضمن أمنها؟ لذا، كانت الأسلحة النووية بالنسبة للبعض هي الحل المُختار. ولحسن الحظ، أن غالبية دول المنطقة امتنعت عن اتباع هذا المسار. ومع ذلك، فإن طموحات/أطماع هذه القلة القليلة من الدول، إلى جانب الجهود الفاشلة لمنع انتشار الأسلحة النووية، قد خلقت مأزقا أمنيا يهدد الاستقرار الإقليمي والعالمي.

معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية

تحظر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية  (CTBT) جميع التفجيرات النووية، سواءً كانت عسكرية أو سلمية. ومن شأن دخول هذا الاتفاق حيز النفاذ أن يُنهي فعليًا التجارب النووية في جميع أنحاء العالم. وبينما صادقت روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة على المعاهدة، لم تُصادق عليها دول أخرى نووية. وتُثير التصريحات الأخيرة الصادرة عن الولايات المتحدة (والتي تُشير إلى أنها ستستأنف تجارب الأسلحة النووية إذا فعل الآخرون ذلك) القلق وتُضعف احتمالات دخول المعاهدة حيز التنفيذ.

وقد أنشأت منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBTO) نظام تحقق عالمي واسع النطاق، يضم أكثر من 300 محطة مراقبة تستطيع أن ترصد أية إشارات زلزالية أو صوتية أو مائية أو إشعاعية، وهذه المحطات قادرة على كشف حتى أصغر التجارب النووية تحت الأرض بأي مكانٍ في العالم.

تضم معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية 196 دولة حول العالم، انما لم تدخل المعاهدة حيز التنفيذ بسبب عدم تصديق عدد من الدول الرئيسية المدرجة في الملحق 2، بعضها من دول الشرق الأوسط.

ويلاحظ ان الانضمام للمعاهدة غير متساوي إقليميا أيضا، وإيران وقعت على المعاهدة، لكنهما لم تُصدّق عليها، نتيجة مخاوف أمنية إقليمية، وهو نفس موقف مصر وكذلك إسرائيل وقّعت على المعاهدة، لكنها لم تُصدّق عليها، مبقيةً على سياسة الغموض النووي. من ناحية أخرى، وقّعت تركيا المعاهدة وصادقت عليها، وهي عضو كامل العضوية. وهناك دول أخرى كالمملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى أعضاء بمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وإن كان بعضهم لا يزال خارج نظام التحقق.

الوضع الراهن للبرامج النووية الرئيسية

لا تزال القدرات النووية الإسرائيلية هي الأكثر غموضًا في المنطقة، مدفوعةً بمبدأ “الغموض النووي”. ويُعتقد على نطاق واسع أن مركز ديمونا للأبحاث النووية في النقب يدعم برنامجًا للأسلحة، يُكمّله مركز أبحاث وتطوير في سوريك. وقبل الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة على إيران، كانت الأخيرة تُدير العديد من المنشآت النووية، بما في ذلك مواقع تخصيب في نطنز وفوردو، ومحطة طاقة مدنية في بوشهر، ومنشأة للمياه الثقيلة في أراك، ومركز تحويل في أصفهان. ورغم أن إيران عضو كامل العضوية في معاهدة حظر الانتشار النووي وملتزمة بالبروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلا أنها واجهت مرارًا وتكرارًا مشاكل تتعلق بالامتثال للوكالة.

تحافظ تركيا على برنامج نووي مدني وشفاف، حيث محطة أكويو للطاقة قيد الإنشاء، ومرافق بحث وتدريب تقع في تشيكمجة. وفي الوقت نفسه، تقوم المملكة العربية السعودية باستكشاف الطاقة النووية السلمية وفي إطار معاهدة عدم الانتشار النووي بنشاط، وقد ألمحت إلى قدرات تخصيب محتملة. وقد جذب اتفاقها الدفاعي الأخير مع باكستان المسلحة نوويًا اهتمامًا دوليًا. ووصولًا إلى مصر، نجدها تُدير مفاعل الأبحاث ETRR-2، ولديها خطط طموحة لتوليد الطاقة النووية، بدءًا من منشأة الضبعة الواقعة على البحر المتوسط والتي تم تطويرها بالتعاون مع روسيا، علما أن مصر كذلك عضو كامل في معاهدة عدم الانتشار النووي.

يمتد المشهد النووي الحالي في الشرق الأوسط على نطاق واسع بدءً من برامج مدنية ذات إمكانات كامنة ووصولًا إلى ترسانة يُشتبه بها منذ فترة طويلة. فلا تزال سياسة “الغموض النووي” التي تنتهجها إسرائيل تمثل حجر الزاوية في عقيدة أمنها القومي. ورغم أن تل أبيب لم تُؤكّد أو تُنفِ رسميًا امتلاكها للأسلحة النووية، إلا أنه يُعتقد على نطاق واسع بأن إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها تمتلك ترسانة أسلحة قامت بتطويرها خارج إطار معاهدة حظر الانتشار النووي. وبالطبع فإن هذا الوضع غير المُعلن يُعقّد جميع جهود منع الانتشار النووي بالمنطقة، ويوفر المبرر للطموحات النووية لدى المنافسين، ويشكّل تحديًا مستمرًا للمجتمع الدولي.

أما البرنامج النووي الإيراني فيحظى بالاهتمام الأوسع على الرغم من إصرار إيران على سلمية برنامجها النووي، كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن أنشطة سرية قد توحي بتفكير إيران في تطوير قدراتها على انتاج أسلحة نووية. ومثّلت خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) لعام 2015 خطوة تاريخيًا تهدف إلى الحد من البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف العقوبات عن طهران.

مع ذلك، فبعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018 والتصعيد الإيراني اللاحق، شهد البرنامج النووي الإيراني تقدمًا ملحوظًا، شمل القدرة على تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من درجة صنع الأسلحة النووية وامتلاك مخزونات كافية لصنع عدة قنابل. لطالما وصفت مصادر إسرائيلية إيران بأنها “دولة على العتبة النووية”، وهو وصف تنفيه طهران لأسباب عقائدية دينية. وقد أدت الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة على طهران إلى إضعاف القدرات النووية للأخيرة وتعقيد القدرة على تقييم ما تمتلكه من قدرات نووية، هذا وقد يدفع التهديد الوجودي المُتصوّر لإيران إلى إعادة تقييم السياسة الاستراتيجية.

يعتقد بعض المحللين إن القدرات والسياسات النووية لإسرائيل، إلى جانب التهديد المُتصوَّر من إيران، قد يُحفِّز ويحرك بشكل أساسي الطموحات النووية للدول العربية. فقد رفضت مصر الانضمام إلى معاهدات دولية إضافية بشأن أسلحة الدمار الشامل، مُشيرةً إلى سياسات إسرائيل. ويجادل بعض المحللين بأن المملكة العربية السعودية تسعى لامتلاك أسلحة نووية إذا ما أقدمت إيران على ذلك، في حين تخلت بالإمارات العربية المتحدة طواعيةً عن تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجتها، وبنت مفاعلات مدنية في ظل ضمانات صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

تحديات عميقة ومتشابكة

إن تحقيق منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط يواجه تحديات عميقة ومتشابكة. ويكمن جوهر هذه التحديات في انعدام الثقة العميق بين دول المنطقة إلى جانب وجود منافسات إقليمية دائمة. وبالإضافة إلى ذلك تُهيمن أيضًا التهديدات الوجودية، حيث ترى الدول العربية أن ترسانة إسرائيل غير المُعلنة، ورفضها الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي أو الالتزام رسميًا بمنطقة خالية من الأسلحة النووية، يعطيها “حصرية نووية” غير مقبولة. ويُضيف برنامج إيران المُتقدِّم تصورًا لوجود “تهديد مزدوج”. هذه المعضلة الأمنية متكررة: فالتهديدات المتصورة تزيد من الرغبة في الردع، مما يؤدي بدوره إلى زيادة التهديدات للآخرين.

وتؤدي العيوب الهيكلية في نظام منع الانتشار النووي إلى تفاقم المشكلة، فمن ناحية، لا تزال إسرائيل خارج معاهدة حظر الانتشار النووي، ومن ناحية أخرى، تحرز القوى النووية المعترف بها تقدمًا بطيئًا في مجال نزع السلاح. وفوق هذا وذاك، فإن اتهامات النفاق والنظام المزدوج تُقوّض المبادئ الأخلاقية والسياسية للمعاهدة، مما يدفع الجهات الفاعلة الإقليمية للتساؤل عن سبب التزامها بقواعد ينتهكها الآخرون أو يتجاهلونها. مما يدفعنا للقول إن الصفقة الكبرى لمعاهدة حظر الانتشار النووي – تخلي الدول غير النووية عن محاولة امتلاك أسلحة نووية مقابل نزع سلاح الدول الحائزة بالفعل للأسلحة النووية – تبدو أنها قد انهارت بمنطقة الشرق الأوسط.

ويُشكّل انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة ودورة التصعيد التي تجتاح الإقليم المزيد من العقبات، وقد أثبتت الحلول الدبلوماسية هشاشتها. إلى جانب أن الأزمات الدائمة تُعقّد التخطيط طويل الأجل لمنع الانتشار النووي. لذا فمع تعثر الدبلوماسية وتزايد خطر الضربات العسكرية الاستباقية تواجه المنطقة دوامة تصعيد خطيرة.

تُجسّد معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية مفهومًا مباشرا وقوي: فهي تحظر جميع تجارب التفجيرات النووية على مستوى العالم، إلى أجل غير مسمى.  وعلى الرغم من عدم دخول المعاهدة حيز التنفيذ بعد لتحفظ عدد من الدول الهامة في هذا المجال والمشار اليها في الملحق للمعاهدة إلا أن المعاهدة أنشأت نظام تحقق متطور قادر على كشف التجارب النووية بدقة متناهية.، نظام يوفر خدمات تحقق من التجارب ومساعدات فنية يمكن الاستفادة منها اختياريا حتى بالنسبة لبعض الدول غير الأعضاء في اتفاقية حظر التجارب النووية.

ولا يتوقع أن تلتزم دول الشرق الأوسط بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية على المدى القريب، حيث أن ملاءمتها غير مؤكدة بالنظر إلى ديناميكيات الأمن الإقليمي والتي تعتمد بشكل كبير على الضوابط والتوازنات، مع هذا إن الاستفادة من منصة المنظمة قد تكون مفيدة إذا ما تم السعي إلى تطبيق المعاهدة بحسن نية والتزام واضح بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية بالشرق الأوسط. وبالنسبة لإسرائيل وإيران، فإن تعهدهم بعدم إجراء تجارب نووية والسماح لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بمراقبة منشآتهما النووية من شأنه أن يعكس ضبط النفس والنية السلمية، مما سيبني الثقة الدولية فيهما دون الحاجة إلى تفكيك فوري للبنية التحتية للتخصيب.

بالنسبة لإسرائيل، يُمثل الالتزام بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية خطوة منخفضة المخاطر ولكن عالية المكافآت، فإنه لن يُجبر تل أبيب على الإعلان عن ترسانتها النووية، ولكنه سيُلزمها فقط بالتعهد بعدم إجراء تجارب جديدة – وهو تنازلٌ ذو تكلفة أمنية ضئيلة ومكسب سياسي كبير. وقد تُمثل هذه الخطوة أولى الخطوات للخروج من ظلمة الغموض، شريطة أن تُشكل جزءً من سياسة جادة لنزع السلاح النووي. ولكن بدون التزام إسرائيلي واضح بالهدف النهائي المتمثل في شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية، ستزداد التفاوتات والتباينات عمقًا في المنطقة.

وتُوفر منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية منصةً تقنيةً ودبلوماسيةً مشتركة. وتتم مشاركة بيانات نظام المراقبة الدولي الخاص بها مع جميع الدول الأعضاء، مما يُعزز الشفافية والتي بدورها يمكن أن تُبدد الشائعات وتُتيح التحقق من الالتزام وتُرسخ عادة التعاون بين الخبراء التقنيين من الدول المتناحرة – وهي فرصة نادرة في منطقة تفتقر إلى الثقة.

خطوات عمليةٌ للمضي قدمًا

تشمل الخطوات العملية ترتيباتٍ ثنائية هادئة بين مسئولي منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية والحكومات الإقليمية، إلى جانب التعاون التقني من خلال التدريب وتبادل البيانات، قد تساهم في الاتفاق علي بعض  التدابير متوسطة الأجل تشجع علي التصديق التدريجي على بنود المعاهدة، مع تقديم ضمانات أمنية ومبادرات وُدّية إقليمية تتفق مع المعاهدة مثل: الالتزام بالوقف الاختياري للتجارب النووية، والالتزام بآليات الشفافية التي تشمل قبول الزيارات الطوعية ووجود خطوط ساخنة بحيث تظل البنية التحتية للتحقق متسقة وشفافة للحفاظ على المصداقية واللياقة/الملاءمة السياسية.

وتتضمن التوصيات الموجهة لأصحاب المصلحة التواصل المستمر مع منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بما يتناسب مع الحساسيات الإقليمية، ويتعين على الدول الإقليمية المشارَكة من الناحية الفنية الآن والتصديق عندما تكون مستعدة وجاهزة لذلك، مع اتخاذ خطوات تدريجية. ويجب أيضا على الشركاء الدوليين تقديم حوافز وضمانات أمنية موثوقة للحد من المخاطر السياسية وتحقيق التزامات تتسق مع معاهدة منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط، حتى لو تطلب ذلك وقتًا وظروفًا مغايرة.

إن الحفاظ على الوضع الراهن الغير متسق مع التزامات منع الانتشار النووي والذي يحوي ازدواجية للمعايير سيكون خطأً وخطيرا على الأمن الدولي العالمي والاقليمي في الشرق الأوسط مصيره الفشل. ويظل الشرق الأوسط حلقة أساسية مفقودة في لغز حظر التجارب النووية العالمي. ولن تشمل عضوية منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية دول في جميع أنحاء المنطقة بين عشية وضحاها، غير ان النظر في بعض تدابير بناء الثقة التدريجية والمستمرة، والتعاون التقني، والدبلوماسية المستهدِفة، مع المنظمة التي تدير المعاهدة والتصميم الحازم على تطبيق معايير واحدة لمنع الانتشار النووي من شأنهم أن يجعلوا التقدم ممكنًا، وسيظل   التوسيع عضوية منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في الشرق الأوسط خيار سياسي ورهن لتصور الدول لأمنها المستقبلي ومكانتها في عالم مترابط. ولذا فيجب أن تتم هذه العملية بشكل منهجي ومتسق، ومن خلال تطبيق معيار موحد على الجميع.

 

 


اترك تعليقاً