التسامح والسماحة
عندما أطلقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونيسكو” مبادرة عام التسامح في 1995 وجعلت من يوم السادس عشر من نوفمبر عيداً سنوياً للتسامح، أتبعت ذلك بزخم من الأنشطة التوعوية وبخاصة في المناطق التي مزقت الصراعات المسلحة نسيجها الاجتماعي كرواندا، ودول منطقة البلقان “يوغسلافيا سابقاً”، وشملت هذه الأنشطة ألعاب الأطفال، والمعارض، والمهرجانات الموسيقية والسينمائية، وكذلك إعداد مناهج تعليمية خاصة تعلم الناشئة قيمة تقبل الآخرين بمختلف ثقافاتهم ودياناتهم وإثنياتهم واختياراتهم الشخصية.
لم أجد في بحثي عن المرادفات العربية أقرب من لفظ “السماحة” أو “طيب النفس” كما عبر عنها سيدنا محمد بن عبد الله “صلى الله عليه وسلم” في الحديث المشهور: “رحم الله رجلاً سمحاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى؛ سمحاً إذا اقتضى”. فالسماحة هنا قيمة إنسانية عالية تجعلك تؤثر الآخر على نفسك، ولا تحمل له في قلبك إلا الخير حتى ولو كان خصمك الذي حكم القاضي لصالحه وخسرت أنت القضية، لكنك لم تخسر سماحة نفسك! وهذا لعمري معنى يقصر دونه القبول على مضض والمجرد من الرضا!
تبين العديد من الدراسات التي أجريت مؤخراً عن قيمة التسامح حول العالم، أن النساء أكثر تسامحاً من الرجال بصفة عامة، وأن الشباب أقل تسامحاً ممن هم في منتصف أعمارهم، بينما نجد أن كبار السن أكثر تسامحاً من الذين في منتصف العمر. كما أبرزت هذه الدراسات الأثر المتعاظم للتعليم على درجة التسامح، إذ يزداد التسامح بصورة طردية مع ارتفاع المستوى التعليمي للفرد، وبخاصة في أوسط خريجي التعليم الجامعي.
كذلك، فإنَّ قاطني المدن الكبرى أكثر تقبلاً للتنوع من ساكني المدن الصغيرة أو القرى، هذا وقد أثبتت بعض الأبحاث التي اُجريت في أوربا أن ارتفاع “مؤشر السعادة” في بلدٍ ما يزيد من “تسامح” أهله مع الآخرين، سواء أكانوا من الأقليات المستوطنة، أم من مجموعات المهاجرين الذين لجأوا حديثاً لتلك الديار!
لقد طغى “التحامل” كسمة اجتماعية في كثير من بلدان العالم المعاصر على تعامل مواطني الدولة مع الوافدين إليها، والذي نراه متمثلاً في تنامي الخوف من الآخر، والارتياب من التأثير الثقافي والاجتماعي، بل والمادي، لهؤلاء الوافدين على المجتمع الذي يستضيفهم، الأمر الذي بذر بذور الكراهية، وأدى للصراع المستتر أو الظاهر الذي نشاهده في الكثير من أقطار العالم. وقد أثبتت العديد من الدراسات العلمية أن هذا التخوف وعدم التسامح يزداد في الغالب بدول العالم الغربي.
قدمت الإمارات للعالم بقيادتها الرشيدة وأصالة شعبها المثال الأفضل على التسامح والتعايش بين جميع المكونات، وهنا يبرز سؤال محوري ألا وهو: كيف استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة – والتي تستضيف على ترابها الوطني حوالي سبعة ملايين وافد من أكثر من مائتي جنسية – أن تقدم مثالاً ناصعاً في التسامح يتحدى تعميم نتائج هذه الدراسات العلمية ؟
كما أن الإمارات لم تكتفِ بذلك السجل الناصع، بل عمدت إلى التعزيز من صدارتها في مضمار التسامح إذ قررت قيادتها الرشيدة أن تخصص عام 2019 للتسامح، بعد أن خلدت الذكرى المئوية لميلاد باني نهضتها الحديثة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه”، باحتفالية “عام زايد” في العام المنصرم 2018.
يأتي عام التسامح “2019” تقريراً لواقع نعيشه نحن الوافدين يومياً، وليس فقط طموحاً مستقبلياً ينتظر التطبيق. وفي ذات الوقت، فإنَّ شغف القيادة بالتفرد، وقدرتها الفائقة على استشراف المستقبل، جعلتها تضع من الخطط والمعايير ما يمكن الدولة من التفوق على ما تم إنجازه في مضمار التسامح، ليرتقي ذلك الطموح إلى أعلى قمم السماحة!!
“يعود جمالُ قوس قزح إلى تنوع ألوانه والتناسق الفريد بينها !!”
ولدعم صدارتها في مجال التسامح، قامت قيادة الإمارات الرشيدة كذلك بإطلاق البرنامج الوطني للتسامح، كما أصدرت قانوناً لمكافحة التمييز والكراهية، وخصصت وزارة للتسامح لتقود هذه المبادرات غير المسبوقة كالمهرجان الوطني للتسامح، وجسر التسامح على قناة دبي المائية، وغير ذلك كثير في جميع الميادين، بحيث جعلت من التسامح من أساسيات الحياة.
هذا ويقوم البرنامج الوطني للتسامح على سبع مرتكزات أساسية هي الإسلام، والدستور الإماراتي، وإرث زايد والأخلاق الإماراتية، والمواثيق الدولية، والآثار والتاريخ متحف “لوفر أبوظبي” في جزيرة السعديات كمثال للبعد التاريخي للإنسانية، والفطرة الإنسانية، والقيم المشتركة. وقد أُوكل تطبيق هذا البرنامج الطليعي إلى فرق عمل عالية التأهيل تم تكليفها بالعمل المشترك مع الجهات الرئيسية ذات العلاقة وذلك ضمن المحاور الخمسة التالي ذكرها:
تعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح وترسيخ دور الأسرة المترابطة في بناء المجتمع وتعزيز التسامح لدى الشباب ووقايتهم من التعصب والتطرف وإثراء المحتوى العلمي والثقافي والمساهمة في الجهود الدولية لتعزيز التسامح وإبراز الدور الرائد للدولة في هذا المجال.
ومن المبادرات التي أطلقها البرنامج الوطني للتسامح تخصيص أسبوع سنوي للتسامح، وإنشاء مركز الإمارات للتسامح، وبرنامج المسئولية التسامحية للمؤسسسات.
في الخامس عشر من شهر ديسمبر 2018، أعلن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله”، أن عام 2019 سيكون عاماً للتسامح. وتبع ذلك الإعلان اعتماد خمسة محاور لهذا العام وهي:
تعميق قيم التسامح والانفتاح على الثقافات والشعوب في المجتمع من خلال التركيز على هذه القيم لدى الأجيال الجديدة.
ترسيخ مكانة دولة الإمارات عاصمة عالمية للتسامح من خلال مجموعة من المبادرات والمشاريع الكبرى، منها المساهمات البحثية، والدراسات الاجتماعية المتخصصة في حوار الحضارات
التسامح الثقافي من خلال مجموعة من المبادرات المجتمعية والثقافية المختلفة
طرح تشريعات وسياسات تهدف إلى تعزيز قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي
تعزيز خطاب التسامح، وتقبل الآخر من خلال مبادرات إعلامية هادفة
للتعليم دور محوري في إعداد أجيال من الناشئة تتميز بتقبل الآخر كما هو دون تمييز أو عداء، وقد قيل قديماً أنَّ “المرء عدوٌ لما جَهِل !”. ولذلك فمن الضروري التركيز على توعية النشء بثقافات العالم حولنا من خلال مناهج دراسية مبتكرة، واستخدام حالات دراسية مؤثرة في مناقشة ظاهرة عدم التقبل، والتمييز السلبي ضد ممثلي المجتمعات التي تختلف عنا دينياً وثقافياً واجتماعياً؛ مستخدمين في عرضنا مقاطع تلفزيونية قصيرة (فيديوهات)، وقصاصات من التراث الأدبي لتلك الشعوب، وذلك لنقل الصورة الواقعية لحياتهم في بلدانهم الأصلية دون رتوش تجميلية!
ولابد في هذا السياق من الاهتمام بإعداد المعلم وتثقيفه ليكون قادراً على تدريس هذا المنهج المستحدث، وعلى قيادة الحلقات النقاشية بكفاءة عالية، وإكمال الصورة الجزئية التي يوفرها المنهج الدراسي بناء على معرفته العميقة بهذه الثقافات العالمية الوافدة على مجتمعه المعاصر. وبذلك يستطيع أن يقود طلابه بأمان إلى الغاية من استعراض هذه الثقافات بغرض التفهم لا النقد وتعميق الصورة النمطية في أذهان الناشئة بصفة خاصة. ومن المهم جداً، في تقديري، العناية الفائقة بتطوير مهارات التفكير النقدي الذي يرمي إلى رفع مستوى التفهم الواعي للآخر، وبالتالي استصحاب قيمة “التسامح والسماحة” على إطلاقها مع هذه الفوارق الثقافية والدينية والإثنية دون أدنى صورة من صور التمييز.
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.