دروس بيئية من انتخابات هولندا
البرامج الانتخابية للأحزاب تتضمن عادة خططاً في الاقتصاد والوظائف والتقديمات الاجتماعية وتوزيع العبء الضريبي والتربية والبحث العلمي والسياسة الخارجية، تعد بتنفيذها إذا وصلت إلى السلطة. لكن البيئة والتغيُّر المناخي والتنمية المستدامة دخلت مؤخراً عنصرا أساسيا في البرامج الانتخابية حول العالم، كما ظهر في الانتخابات التشريعية الهولندية الأسبوع الماضي. اللافت أن هموم التصدّي لجائحة «كورونا» لم تمنع طرح التحدّيات الأخرى، بل شكّلت حافزاً للمطالبة بتوجيه الأموال المخصصة للتعافي، والتي تجاوزت 50 تريليون دولار، إلى برامج تدمج الاعتبارات البيئية والمناخية في أهدافها.
خاضت الانتخابات الهولندية، التي تعتمد النظام النسبي، 37 لائحة تنافست على 150 مقعداً. وفي حين توزّعت اللوائح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، فقد احتلت البيئة موقعاً في برامجها الانتخابية جميعاً، وإن على مستويات متفاوتة. فحزب «اليسار الأخضر» طالب بخفض فوري وجذري في الانبعاثات الكربونية، عن طريق تشديد القيود على الصناعة والمواصلات وأساليب إنتاج الطاقة. ووجد أن أثر هذا في إمكان حصول التباطؤ الاقتصادي على المدى المتوسط أقلّ كثيراً من الآثار الكارثية للتغيُّر المناخي. حزب «المنتدى الديمقراطي» اليميني المتطرّف وضع النمو الاقتصادي في طليعة اهتماماته، مطالباً بخفض تدريجي بطيء في الانبعاثات على نحو لا يؤثر في قدرة البلد التنافسية. وهو شكّك في الأرقام والتوقّعات العلمية عن التغيُّر المناخي، معتبراً أنها مضخّمة ولا تستحق تحركاً عاجلاً. وكان الحزب الوحيد الذي عارض في برنامجه القيود المفروضة للحد من انتشار فيروس «كورونا»، مطالباً بفتح النشاطات في جميع القطاعات بلا شروط. ويشابه هذا مواقف سياسيين شعبويين في بلدان أخرى، يقلّلون من أهمية التغيُّر المناخي ووباء «كورونا»، لاجتذاب فئة من الناخبين تعتبر عدم الالتزام بالقيود تعبيراً عن ممارسة نوع من الحرية الشخصية.
الانتصار الأكبر في الانتخابات الهولندية حققه الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي وضع التصدّي للتغيُّر المناخي في رأس برنامجه، وجعل تنفيذ جدول أعمال التنمية المستدامة على نحو عادل، محلياً وعالمياً، هدفه الأول، تحت شعار وصول فوائد التنمية إلى الجميع و«عدم تخلّف أحد عن الركب». وقدّم الحزب خطة للتعافي الاقتصادي ركّزت على دعم البحث العلمي والتحوّل الرقمي لتشجيع الابتكار، فينمو الاقتصاد عن طريق تقديم نوعية إنتاج أفضل تشكّل قيمة مضافة، وتذهب أبعد من زيادة الكمّيات. برنامج هذا الحزب، الذي قام على مبادئ التنمية المستدامة والبيئة، استقطب 40 في المائة من الأصوات الإضافية، ليجعله للمرة الأولى منذ عقود الحزب الثاني في البلاد. واستطاع «حزب الشعب للحرية والديمقراطية» أن يحافظ على المركز الأوّل عن طريق الالتزام ببرنامج وسطي يعطي الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية أهمية متساوية، مع التعهد بحماية قطاع الأعمال. وقد بدأت المشاورات لتشكيل حكومة ائتلافية من أربعة أحزاب، لأن أيّاً من الأحزاب الفائزة لم يحصل على أكثرية مطلقة ليحكم منفرداً. وقد يستغرق الاتفاق على برنامج العمل الحكومي عدّة أسابيع، إذ يحتاج هذا إلى تسويات وتنازلات من كل فريق، وصولاً إلى خطة موحّدة يلتزم بها الجميع.
على الخطة الحكومية الموحّدة أن تتضمن تفاصيل وجدولاً زمنياً للتنفيذ. فأين تكمن الخلافات في مواضيع البيئة والمناخ؟ بينما يطالب البعض بتخفيض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر بحلول سنة 2030، يجد آخرون في هذا هدفاً غير واقعي، ويطلبون الاكتفاء بالهدف الذي حددته قمة باريس المناخية عام 2015، وهو الوصول إلى «صفر انبعاثات» سنة 2050، مع محاولة العمل مع الدول الأوروبية الأخرى لتقريب الموعد النهائي إلى سنة 2045. وفي حين تطالب بعض الأحزاب بإبقاء الخيار النووي مفتوحاً، كبديل لإنتاج الكهرباء من دون انبعاثات كربونية، وتعتبر هذا عنصراً ضرورياً للحدّ من تغيُّر المناخ، ترفض أحزابٌ أخرى من اليسار ويسار الوسط، والأحزاب الثلاثة المعنية بالبيئة وحقوق الحيوان والطبيعة، أي استخدام للطاقة النووية، الآن وفي المستقبل. وهي تعتبر أن الطاقة المتجددة وترشيد الاستهلاك والكفاءة كفيلة بتأمين الحاجة إلى الطاقة وخفض الانبعاثات إلى الصفر، خاصة مع تطوير استخدامات الهيدروجين كناقل للطاقة المتجددة ومخزّن لها.
وفي استجابة مزدوجة لتحدّيات بيئية وصحية، دعت أحزاب في برامجها إلى زيادة الضرائب على اللحوم والمشروبات الغازية والسكّريات، وخفضها على الخضار والفواكه والمشروبات الطبيعية والأطعمة الليفية القليلة السكّر، كما طالبَت أحزاب أخرى بخفض عدد حيوانات المزارع إلى النصف. السبب البيئي أن تربية الحيوانات لإنتاج اللحوم والألبان تتسبب بانبعاثات كربونية كبيرة، وتستهلك كميات ضخمة من المياه. كما أنّ الاستهلاك المفرط للحوم يتسبب في مشاكل صحية خطيرة، خاصة انسداد الأوردة والشرايين. أما الأمراض الناجمة عن زيادة مستويات السكّر في الدم فهي من أبرز التحديات الصحية، عدا عن تسببها بالبدانة. لكن الأحزاب المقرَّبة من المزارعين تعترض على تخفيض سريع في تربية الأبقار وإنتاج اللحوم، مطالبة بخفض تدريجي. واللافت أن الأحزاب المشككة بتغيُّر المناخ و«الكورونا» هي نفسها التي تعارض كلياً أي تدابير تحدّ من استهلاك اللحوم والسكريات، كما عارضت في الماضي زيادة الضرائب على منتجات التبغ، وذلك انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على الحرية الشخصية.
تتفق جميع الأحزاب على وجوب الحدّ من المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. ومن المتوقع التوصّل إلى تفاهم يمنع إنتاج الأكياس وعبوات التعليب البلاستيكية من مواد أولية جديدة، وحصرها بإعادة تصنيع المواد البلاستيكية المستعملة، لتخفيف عبء النفايات. وفي حين يتفق الجميع على زيادة المساحات الخضراء والأراضي المحمية والغابات، تختلف التفاصيل. فأحزاب الخضر والبيئة والطبيعة تطالب بزيادة مساحة الغابات بنسبة 10 في المائة وتدعو إلى اعتماد 48 متراً مربعاً من المساحات الخضراء لكل شخص، بينما يتخوَّف آخرون من أن يحدَّ هذا من إمكانية بناء وحدات سكنية إضافية في المدن، التي تحتاج إلى مئات الآلاف الإضافية منها. ويطرح الحزب الديمقراطي الليبرالي حلاّ وسَطاً، يقوم على زيادة أقل في المساحات الخضراء، بالتوازي مع تحسين نوعيتها وربطها بعضاً ببعض لتشكيل حدائق عامة واسعة.
برامج الأحزاب الهولندية المتنافسة تحدثت بالتفصيل عن الصناعة والتجارة والزراعة والطاقة والمياه والتربية والصحة والمواصلات والتقديمات الاجتماعية والضرائب. لكن البيئة والتنمية المستدامة والتغيُّر المناخي أخذت حيزاً مميزاً، كعوامل مؤثرة في هذه القضايا جميعاً.
متى تدخل البيئة والتنمية المستدامة والتغيُّر المناخي على نحو جدي في برامج الأحزاب كما في السياسات الحكومية في العالم العربي؟ . “الشرق الأوسط”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.