الشرود الذهني يعني أنك لا تعيش لحظتك الحاضرة وتتسرب الحياة من بين يديك فيما أنت قلق على المستقبل أو حزين على الماضي

زيادة مستوى الشرود الذهني مرتبط إحصائياً بنقص مستوى السعادة

مقالات
د. حسين العبري:كاتب عربي

 

زيادة مستوى الشرود الذهني مرتبط إحصائياً بنقص مستوى السعادة

 

 

 

 

 

أجريت عام 2011 في جامعة هارفرد دراسة قاست مستوى الشرود الذهني لدى الناس، استعملت الدراسة تطبيقا هاتفيا يطرح على المشتركين في أوقات عشوائية في اليوم سؤالا عما يفعلونه حينها، وما إن كانوا منتبهين لما يفعلونه، وما هو مستوى سعادتهم. كانت النتيجة أن متوسط الشرود الذهني اليومي يساوي 47% وأن زيادة مستوى الشرود مرتبط إحصائيا بنقص مستوى السعادة، يعني هذا (لو عممنا نتائج الدراسة وهو ما أتاحته الدراسات اللاحقة) أننا نكون شاردي الذهن في نصف الوقت تقريبا الذي نكون فيه غير نائمين، وهذا يعني أننا لا نكون حاضرين في اللحظة الراهنة وغير منتبهين لما حولنا نصف يومنا بل نسرح بتفكيرنا إما في الماضي أو في المستقبل، والأهم والمقلق أن شرودنا الذهني يمكن أن يكون دليلا على تعاستنا.

لا يعني هذا أن الشرود الذهني هو سبب التعاسة بالضرورة، فربما يكون اجترار الأفكار الذي يؤدي إلى الشرود الذهني هو بنفسه ناتج من نتائج التعاسة، وهذا ما تؤيده الملاحظات في العيادات النفسية؛ فنقص التركيز واحد من أعراض القلق والاكتئاب، فكلما كنت قلقا أو مكتئبا انشغل بالك في الهواجس الداخلية المتعلقة إما بالماضي أو المستقبل وقلَّ تركيزك وانتباهك.

الشرود الذهني يعني أنك لا تعيش لحظتك الحاضرة وتتسرب الحياة من بين يديك فيما أنت قلق على المستقبل أو حزين على الماضي. من المهم طبعا أن نستدرك هنا بالقول: إن التفكير في الماضي أو المستقبل لا يؤدي بالضرورة إلى القلق والحزن بل إن العديد من عمليات التفكير المفيدة تحتاج إلى تذكر الماضي والاستفادة منه وتحتاج إلى التخطيط للمستقبل وتخيله وعيشه ذهنيا، لكن المرء عادة ما يقضي جزءا لا بأس به من وقته في هواجس إما غير مفيدة أو حتى مضرة. تذكر أن ما نعيشه حقيقة هو اللحظة التي نكون فيها، أما الماضي فهو مجموع لحظات مرت والمستقبل مجموع لحظات لم تأت بعد، وحين نعيش في الماضي أو المستقبل فإننا إنما نبدد لحظتنا الراهنة من أجل لحظات لن تعود أبدا أو لحظات لم تأت بعد أو لن تأتي مطلقا.

لكن هل وعي الإنسان باللحظة الحاضرة يمكن أن يخفف من تعاسته أو يزيد من سعادته؟ العديد من الدراسات تجيب على هذا السؤال بنعم، يمكنك أن تسيطر بطريقة ما على انفعالاتك السلبية وتقلل من تعاستك عن طريق زيادة مقدار العيش في اللحظة الراهنة، تتوفر الآن دراسات كثيرة تثبت أن اليقظة الذهنية، أي العيش في الحاضر، له أثر إيجابي على الصحة النفسية والجسمية، فهو يقلِّل من التعاسة، ويقوي من المهارات المعرفية، ويقلل من الآلام الجسمية، بل وحتى يزيد من مناعة الجسم.

يعرِّف الدكتور جون كابات زن اليقظة الذهنية على أنها «الوعي الذي ينشأ من خلال الانتباه عن قصد، في اللحظة الحالية، دون إصدار أحكام»، والدكتور كابات زن هو مؤسس حركة اليقظة الذهنية، استقى فكرتها من الطقوس البوذية، عمل محاضرا أكاديميا في جامعة ماساتشوستس، وأسس برنامجا لتعزيز اليقظة الذهنية في عام 1979، والفكرة من هذا البرنامج تعليم الأفراد تمارين معينة لتعزيز اليقظة الذهنية، وكان البرنامج مخصصا لتقليل التوتر لكن برامج اليقظة التي اختُرِعت لاحقا تعددت أهدافها لتشمل التخفيف من القلق والاكتئاب وأيضا التخفيف من الآلام المزمنة، وأصبحت اليقظة الذهنية مع الوقت جزءا من العلاجات النفسية يعتمد على الأدلة العلمية. هناك تمارين مختلفة يمكن أن تعزِّز يقظتك الذهنية أو انتباهك باللحظة الحاضرة وما يدور من حولك، وهي تمارين ليست صعبة لكنها تحتاج إلى استمرارية، أما أثرها فإن الأبحاث الحديثة والتي زادت زيادة كبيرة خلال السنوات العشر الماضية تؤكد باستمرار فعاليتها في تعزيز الصحة العامة والصحة النفسية.

لا تزيد اليقظة الذهنية من وعينا بأفكارنا ومشاعرنا ولا تحاول أن تصحح تشوهاتنا التفكيرية كما تفعل مثلا العلاجات التحليلية أو العلاجات المعرفية السلوكية، بل تعمل على طبقة أعلى؛ فهي تزيد من وعينا بوعينا وتزيد من تقبلنا لما يعتمل داخلنا من غير إصدار أحكام. في كل الأحوال ورغم عدم معرفتنا الدقيقة بالسيرورة الذهنية والدماغية لعمل اليقظة الذهنية إلا أن الدراسات تشير إلى فعاليتها.

عن جريدة عمان اليوم

 


تعليقات الموقع