سيناريوهات أسعار الذهب العالمية بين الارتفاع والتباطؤ

الرئيسية مقالات
حساني شحات محمد:باحث متخصص في الاقتصاد الدولي ومشروعات التكامل الاقتصادي الإقليمي
سيناريوهات أسعار الذهب العالمية بين الارتفاع والتباطؤ

 

محددات جيوسياسية:

سيناريوهات أسعار الذهب العالمية بين الارتفاع والتباطؤ

 

 

 

 

في ظل تصاعد التحديات الاقتصادية والجيوسياسية، وتنامي حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية سواء النقدية أم المالية أم التجارية؛ يعود الذهب إلى الواجهة العالمية بوصفه أصلاً مالياً استراتيجياً. فلم يعد يُنظر إليه كمعدن ثمين فحسب، بل أصبح يُمثل ضمانة للاستقرار الاقتصادي، ومخزناً للقيمة، وملاذاً آمناً في مواجهة تقلبات الأسواق وتراجع الثقة بالعملات في ظل تقلبات أسعار الصرف وخاصةً في الدول النامية.

وعلى امتداد التاريخ الاقتصادي، ظل الذهب عنصراً محورياً في النظام المالي العالمي، سواء باعتباره مكوناً رئيسياً في احتياطيات البنوك المركزية، أم كأصل تستخدمه المؤسسات والمستثمرون للتحوط من التضخم والمخاطر المالية. وعلى الرغم من تخلي معظم الدول عن “معيار الذهب” في أنظمتها النقدية الحديثة؛ فإن مكانته لم تتراجع، بل تعززت خلال السنوات الأخيرة بفعل الأحداث الاقتصادية الكبرى والاضطرابات النقدية العالمية.

ومع كل أزمة مالية كبرى، وخاصةً منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، مروراً بجائحة “كوفيد19” والسياسات التجارية المتشددة، وصولاً إلى الأزمات الجيوسياسية الراهنة ولا سيُما بعد حرب الرسوم التجارية؛ يتجدد التساؤل: كيف تؤثر السياسات الاقتصادية للدول في مسار أسعار الذهب؟ وبناءً على ذلك، يتناول هذا التحليل تأثير السياسات الاقتصادية في تشكيل اتجاهات الذهب السعرية، واتجاهات الطلب العالمي على الذهب التي أسهمت في دفع أسعاره إلى مستويات تاريخية، إضافة إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية لمكانة الذهب في النظام المالي الدولي.

اتجاهات الطلب:

شهدت السنوات الأخيرة اتجاهاً تصاعدياً ملحوظاً في الطلب العالمي على الذهب، مدفوعاً بتزايد مشتريات البنوك المركزية وصناديق الاستثمار المتداولة في الذهب (ETFs)، ولا سيّما في ظل ظروف اقتصادية تتسم بعدم اليقين واضطرابات جيوسياسية، وتوقع خفض أسعار الفائدة، واستمرار توقف الحكومة الفدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى توقعات بفرض رسوم جمركية انتقائية على الذهب السويسري. وقد بلغ سعر الذهب مستوى قياسياً تجاوز 4,380 دولاراً في 20 أكتوبر 2025، قبل أن يتراجع إلى نحو 4,060 دولاراً في 27 أكتوبر، وذلك في ظل موجة شراء مفرطة، وبعدما أشارت تقارير إلى اقتراب الولايات المتحدة والصين من إتمام اتفاق شامل، بالتزامن مع الجولة الآسيوية للرئيس دونالد ترامب. ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، استمر زخم الطلب على الذهب كما هو؛ حيث ارتفع الطلب عليه في الربعين الأول والثاني من العام الجاري إلى 1,175 و1,249 طناً على التوالي.

أما على أساس سنوي، فقد بلغ إجمالي الطلب على الذهب في عام 2024 مستوى قياسياً قدره 4,974 طناً، وكانت البنوك المركزية المحرك الأبرز لهذا النمو؛ إذ واصلت شراء الذهب بوتيرة غير مسبوقة للعام الثالث على التوالي، متجاوزة 1000 طن من المشتريات السنوية، مع تسارع واضح في الربع الرابع من نفس العام بلغ خلاله صافي المشتريات 333 طناً.

كما ارتفعت حصة صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب إلى أعلى مستوى لها خلال أربع سنوات، مسجلة نحو 1,180 طناً، بزيادة سنوية قدرها 25%. ويؤكد ذلك عودة الثقة في الذهب كأداة استثمارية رئيسية في فترات عدم الاستقرار، كما أن الاستثمار في الذهب تفوق على الاستثمار في الأصول المالية الأخرى؛ حيث ارتفع خلال عام 2024 بنسبة 27.5% متفوقاً حتى على مؤشر (S&P 500) بنحو 10%. كذلك أسهم الطلب التكنولوجي بدوره في دعم الطلب على الذهب؛ إذ ارتفع على أساس سنوي بمقدار 21 طناً (نسبة 7%) خلال عام 2024 نتيجة توسع استخدام الذهب في الصناعات المتقدمة وخاصةً تطبيقات الذكاء الاصطناعي والإلكترونيات الدقيقة.

في المقابل، تراجع الطلب على المجوهرات، والذي يتكون من استهلاك المجوهرات والتغير في المخزون؛ صاحب الحصة الأكبر في الطلب على الذهب عالمياً، بنسبة 11% نتيجة ضعف القوة الشرائية وارتفاع التضخم العالمي، بيد أن قيمة الإنفاق على المجوهرات ارتفعت بنسبة 9% بفضل ارتفاع الأسعار.

السياسات الاقتصادية:

إن التغير في السياسات الاقتصادية، بما في ذلك التغير في حيازة الأصول أو تحركات أسعار الفائدة، ومستويات الإنفاق العام، والسياسات الحمائية التجارية وأسعار الصرف، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية والعقوبات الاقتصادية؛ جميعها تنعكس بصورة مباشرة وفورية على اتجاهات الطلب على الذهب. ويمكن تناول تأثير السياسات الاقتصادية كما يلي:

1- السياسات النقدية: منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2008، تغيرت سياسات البنوك المركزية تجاه الذهب، فاتجهت إلى زيادة احتياطياتها منه بدلاً من الاتجاه الذي كان سائداً بخفض حيازاتها من الذهب لصالح الأصول المالية ذات العائد الأعلى، ولا سيّما مع انهيار أسعار الأسهم والسندات بفعل الأزمة؛ وهو ما أعاد الاعتبار للذهب كأصل آمن وموثوق خلال فترات الأزمات والتقلبات الاقتصادية. ومع وجود أسواق عالمية منظمة في لندن ونيويورك وشنغهاي، ازدادت جاذبية الذهب كأصل احتياطي موثوق يعزز الأمن المالي للدول.

ووفقاً لمسح (Central Bank Gold Reserves Survey 2025)، تجاوزت مشتريات البنوك المركزية 1,000 طن سنوياً في السنوات الثلاث الأخيرة، مقارنةً بنحو 400 إلى 500 طن في العقد السابق؛ ما يعكس تزايد أهمية الذهب لدى البنوك المركزية في إدارة المخاطر وتقليل تقلبات الأسواق خاصةً في أسعار الصرف. وأظهر الاستطلاع أن 95% من البنوك المركزية تتوقع زيادة احتياطياتها من الذهب، بينما يخطط 43% منها لتعزيز الاحتياطيات المحلية. ليس هذا فحسب، بل أصبح استثمار البنوك المركزية في الذهب، آلية لإدارة المخاطر؛ حيث أظهر المسح أن نحو 44% من البنوك المركزية تدير احتياطياتها من الذهب بشكل نشط، في أعلى نسبة منذ بدء المسح عام 2018؛ حيث يهدف هذا التوجه بشكل رئيسي إلى تعزيز العوائد وإدارة المخاطر.

ومن جهة أخرى، تُعد أسعار الفائدة أداة رئيسية للسياسة النقدية للتأثير في التضخم والنمو الاقتصادي؛ فمع ارتفاعها يزداد العائد على الأصول المالية مثل السندات والأسهم؛ ما يقلل من جاذبية الذهب الذي لا يدر عائداً؛ فيتراجع الطلب عليه وتنخفض أسعاره. وفي المقابل، عند انخفاض أسعار الفائدة، يصبح الذهب أكثر جاذبية كملاذ آمن ومخزن للقيمة؛ ما يعزز الطلب ويضغط على الأسعار للصعود.

وقد تجلى هذا التوجه بشكل رئيسي مع خفض أسعار الفائدة الذي انتهجته البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفدرالي الأمريكي؛ ما دفع المستثمرين والبنوك المركزية إلى زيادة حيازاتهم من الذهب، فضلاً عن أن تراجع أسعار الفائدة يقلل من جاذبية الدولار الأمريكي كأصل احتياطي عالمي؛ نظراً لتراجع قيمته في مقابل العملات الأخرى. ومن المُُتوقع أن يخفض الفدرالي الأمريكي سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في أكتوبر الجاري، مع خفض آخر متوقع في ديسمبر من نفس العام. وتشير التقديرات إلى أن استمرار هذا الاتجاه في الفترات المقبلة سيظل عاملاً محورياً في دعم أسعار الذهب، خاصةً في ظل تقلبات الأسواق المالية وارتفاع المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية.

2- السياسات المالية: غالباً ما تهيمن السياسة النقدية على تحركات أسعار الذهب، غير أن السياسات المالية، بما تتضمنه من إنفاق حكومي وضرائب وعجز مالي، تؤدي دوراً محورياً في تشكيل توقعات التضخم وتوجيه الطلب على الذهب كأداة للتحوط ضد تآكل القيمة الشرائية، وقد تسببت السياسات المالية التوسعية منذ جائحة “كوفيد19” في تعزيز مستويات السيولة والتمويل بالعجز. وهذا ما كرس أهمية الذهب في ظل الارتفاع غير المسبوق في مستويات الدين العام العالمي؛ فبحسب صندوق النقد الدولي، تجاوز الدين العالمي 235% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغ الدين الحكومي نحو 93% من الناتج العالمي.

كما أن استمرار إغلاق الحكومة الفدرالية الأمريكية بسبب النزاع حول سقف الدين، يُولد حالة من القلق والاضطراب في الأسواق؛ إذ يُضعف التعطل الحكومي الثقة في الأداء الاقتصادي ويثير مخاوف من اللجوء إلى التمويل بالعجز أو طباعة النقود لتغطية النفقات. فمع دخول الحكومة الأمريكية أول إغلاق لها منذ نحو سبع سنوات بعد فشل التوصل إلى اتفاق حول تمويل الإنفاق الحكومي، كان ذلك أحد العوامل الحاسمة التي انعكست على أسعار الذهب عالمياً.

3- السياسات التجارية والعقوبات الاقتصادية: تُعد السياسة التجارية أداة محورية؛ حيث تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الأسواق المالية والسلع الأساسية، بما فيها أسعار الذهب، فالتوترات التجارية التي تسببت بها السياسات الحمائية للرئيس دونالد ترامب أدت إلى توجه الدول لزيادة حيازة الذهب. بل تعدى الأمر حدود الضرائب الجمركية المرتفعة التي فرضتها إدارة ترامب على كل دول العالم تقريباً، إلى محاولات فرض ضرائب انتقائية على واردات الذهب السويسري؛ حيث انتشرت تقارير حول فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات سبائك الذهب “وزن واحد كيلوغرام”، ضمن حزمة رسوم جمركية بنسبة 39% على الواردات من سويسرا، حيث يُعد الذهب أحد أكبر صادرات سويسرا إلى الولايات المتحدة.

وتُمثل سويسرا فاعلاً مهماً في سوق الذهب العالمي؛ حيث تمثل مصافي الذهب السويسرية نحو 70% من الإنتاج العالمي. وفي عام 2024، بلغت صادرات الذهب غير المشغول 30% من إجمالي صادرات سويسرا؛ ومن ثم فإن محاولات فرض ضرائب جمركية على واردات الولايات المتحدة من الذهب السويسري، تتسبب في رفع أسعاره ليس فقط في الداخل الأمريكي، بل عالمياً. فقد تسبب توارد هذا الخبر في أغسطس الماضي في زيادة حالة التوتر في السوق العالمي للذهب؛ ما رفع أسعار الذهب في السوق الفوري بأكثر من 3% وكذلك أثر في أسعاره الآجلة.

إضافة إلى ذلك، أدت العقوبات الاقتصادية والتجارية إلى دفع العديد من الدول نحو زيادة احتياطياتها من الذهب كوسيلة للتحوط من المخاطر الجيوسياسية. فبعد تجميد أصول مالية لروسيا بنحو 300 مليار دولار منذ عام 2022 عقب الحرب الروسية الأوكرانية والتي لا زالت مستمرة، اعتمدت موسكو على مخزونها الذهبي لدعم استقرارها المالي. بينما واصلت الصين تعزيز احتياطياتها من الذهب لتصل إلى 74.06 مليون أونصة في سبتمبر 2025، مع خطط لزيادتها بين 5 و10% بحلول عام 2027 بهدف تنويع أصولها وتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي.

سيناريوهات مستقبلية:

في ضوء التطورات الاقتصادية والجيوسياسية الراهنة، تشير السيناريوهات المستقبلية إلى استمرار الاتجاه الصعودي في أسعار الذهب عالمياً على المدى المتوسط، مدفوعاً بعوامل متعددة؛ تشمل تزايد مشتريات البنوك المركزية وصناديق الاستثمار، واستمرار حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية العالمية، إلى جانب توقعات خفض أسعار الفائدة الأمريكية خلال عام 2026.

فقد بات الذهب اليوم عنصراً استراتيجياً في سياسات الاحتياط النقدي للدول ومكوناً أساسياً في المحافظ الاستثمارية، بعد أن تجاوز دوره كملاذ مؤقت في الأزمات. وتشير توقعات مؤسسة “غولدمان ساكس” (Goldman Sachs) إلى احتمال وصول سعر الأونصة إلى 4,900 دولار بحلول ديسمبر 2026، بعد أن كانت تقديراته السابقة تشير إلى 4,300 دولار، مدعوماً بتزايد التدفقات نحو صناديق الاستثمار المتداولة واستمرار مشتريات البنوك المركزية، خصوصاً من الأسواق الناشئة.

كما رفع بنك “سوسيتيه جنرال” (Société Générale) توقعاته إلى 5 آلاف دولار للأونصة في نهاية عام 2026، مستنداً إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية والاقتصادية. في حين يرى “دويتشه بنك” (Deutsche Bank) أن العوامل الداعمة مثل ضعف الدولار الأمريكي، وتيسير السياسة النقدية، وارتفاع الطلب الرسمي على الذهب؛ ستُبقي الأسعار في منحنى صاعد.

وبالرغم من هذا الزخم؛ لا يُستبعد سيناريو التباطؤ النسبي في أسعار الذهب عالمياً؛ إذا ما هدأت التوترات الجيوسياسية والاقتصادية خاصةً بين الولايات المتحدة والصين، وتحسنت أوضاع أسواق الأسهم، أو استقرت السياسات التجارية الأمريكية، أو تباطأت وتيرة خفض الفائدة الفدرالية. ومع ذلك، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار الارتفاع التدريجي في أسعار الذهب العالمية خلال عام 2026، في ظل مزيج من المخاطر الجيوسياسية وتراجع العوائد الحقيقية للأصول المالية التقليدية.


اترك تعليقاً