الحقيقة والعدالة هما وجه الميدالية التي يحمل وجهها الآخر استعادة السيادة

لبنان: مسلسل الهروب من العدالة والمحاسبة!

مقالات
حنا صالح: كاتب عربي

 

لبنان: مسلسل الهروب من العدالة والمحاسبة!

 

 

 

كأن اللبنانيين أمام مسلسل متلفز، مع تتالي تقديم الدعاوى المفبركة الهادفة إلى كف يد القاضي طارق البيطار، المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، الذي يواجه تدخلات حكومية وسياسية وتهديدات من «حزب الله» بـ«قبعه»، وهو القاضي المكلف رسمياً التحقيق في واحدة من كبرى الجرائم ضد الإنسانية.

دأب النواب المدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل وجنحة الإهمال، على تقديم دعاوى «الرد» و«المخاصمة» و«كف اليد» و«النقل» و«الارتياب المشروع»! الهدف بالحد الأدنى تعطيل التحقيق العدلي ووقف مفاعيله وتعليق جلسات الاستجواب، وفي الحد الأعلى سحب الملف ونقله إلى قاضٍ آخر، يأملون أن يكون «طيعاً» فينظّف ملفاتهم، التي وفّرت معطيات عن شبهة كاملة، فادّعى البيطار بالجناية على مروحة من أركان المنظومة السياسية المتحكمة ومعها ذراعها الأمنية والعسكرية!

في الرابع من الشهر الجاري، أسقطت محكمة الاستئناف دعوى «رد» تقدم بها النائب نهاد المشنوق الذي كان يشغل مركز وزير الداخلية بين فبراير 2014 وآخر عام 2018، وخلال هذه الفترة تم تفريغ وتخزين حمولة الباخرة «روسوس» وهي شحنة «نترات الأمونيوم» الشهيرة!

وفي التاريخ نفسه أسقطت المحكمة إياها دعوى «الرد» المقدمة من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، وكان الأول وزيراً للمالية والثاني وزيراً للأشغال فترة إدخال شحنة الموت إلى العنبر «رقم 12» في مرفأ بيروت. ولفت الانتباه اجتهاد المحكمة التي غرّمت المدعين عندما أكدت أنهم يستهدفون إعاقة العدالة.

وفي الحادي عشر منه، أسقطت محكمة التمييز طلب «ردٍّ» آخر تقدم به أيضاً خليل وزعيتر، ليتقدما فوراً بدعوى «ردٍّ» معجَّل، في وقت كان المشنوق قد تقدم بدعوى «ارتياب مشروع»، أسوةً بادّعاء الوزير السابق يوسف فنيانوس، الذي أصدر البيطار بحقه مذكرة توقيف غيابية لامتناعه عن الامتثال أمامه، أتبعها الثلاثاء بمذكرة مشابهة بحق الوزير السابق الخليل، ليتكشف وضع سوريالي غير مسبوق: عالم المتسلطين المطمئنين إلى القدرة على الإفلات من الحساب، يقابله ذهول المواطنين مع التلكؤ الرسمي بتنفيذ القرارات القضائية!

أما رئيس الحكومة السابق حسان دياب الذي قيل إن سفره إلى الولايات المتحدة أشبه بفرار من التحقيق، فقد أوكل القضية إلى طابور محامين بينهم نقباء بارزون ومكاتب محاماة كبرى… في المقابل قصد المشنوق المرجع الدستوري الفرنسي دومينيك روسّو للحصول على فتوى «غبّ الطلب»، فوزّع فقرات منها تفيد بأن الوزراء لا يحاكَمون إلاّ أمام «المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء»، واتهم وكلاء المشنوق المحقق العدلي بانتهاك الدستور ومبدأ فصل السلطات!

لكنّ النائب المشنوق أسقط فقرة جوهرية استهلّ بها روسو الفتوى وهي أن «المسألة ليست إذا كان يجب محاكمة الوزير أم لا. المسألة ما هي المحكمة الصالحة؟» بذلك تسقط الاستشارة لأنها انبنت على معلومة مغلوطة بشأن «المجلس الأعلى»، فهو مجلس على الورق لم ينعقد في أي يوم ولن ينعقد، والادعاء على المتهم يتطلب ثلثي أعضاء مجلس النواب! ومن الآخر في مقابل حصر الاتهام والمحاكمة لرئيس الجمهورية بالقول: «لا يمكن اتهامه إلاّ من مجلس النواب»، اختلف الأمر مع الوزراء عندما ورد في النص «لمجلس النواب أن يتهم»، أي أن هناك إمكانية ألا يتهم! وغنيٌّ عن القول إن هذه المحكمة وهمية لا يسمع بها الناس إلاّ حين يتجرأ قاضٍ على طلب ملاحقة وزير فيهبّون للدفاع عنه بالزعم بلا أهلية القضاء العدلي، ليتم طي الموضوع ويُسجل الجرم ضد مجهول، ويُهرّب المدعى عليه من الحساب! وفي عودة إلى روسو، الذي لم تُنشر مطالعته بعد، فقد عدّ في مارس الماضي أن محاكمة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي أمام القضاء العدلي «ليست سوى تطبيق لمبدأ عدالة الجميع أمام القانون».

إذا كان مفهوماً قيام نوابٍ مدعى عليهم بكل الأحابيل لتضييع الحقيقة في دهاليز سياسية غير نظيفة، وسعيهم إلى حجب العدالة، وتحويل جريمة الحرب التي استهدفت بيروت إلى حادث انفجار عرضي في مخزن «أسمدة»! فالسؤال يتناول دور المراجع القضائية، خصوصاً النيابة العامة، التي انحازت إلى صفوف المدعى عليهم، ضد الضحايا وضد الحق العام، فبدا قاضي التحقيق العدلي مجرداً من أي دعم. يقول النائب العام غسان عويدات: يمْثل الوزراء أمام المجلس الأعلى ونقطة ع السطر! وتمتنع النيابة العامة عن منح الإذن لملاحقة مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، ومدير أمن الدولة اللواء طوني صليبا، وتمتنع عن تنفيذ مذكرة توقيف الوزير فنيانوس، ويجتهد النائب العام بالوكالة عماد قبلان، فيعلن أن معرفة المدعى عليهم بوجود مادة النترات غير كافية للادعاء عليهم، متجاهلاً أن التقارير حذرت من زوال بيروت وأن المعنيين لم يتحملوا مسؤوليتهم!

وضع سوريالي: المجلس الأعلى للدفاع برئاسة عون يحجب إذن ملاحقة اللواء صليبا، ويعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن البلد «لا يتحمل تغيير قاضٍ ثانٍ للتحقيق»، ليضيف كأنه مرجع قضائي أن المدعى عليهم يجب أن يحاكَموا أمام المجلس الأعلى، ويتهم قاضي التحقيق بالشعبوية، لينفي بعدها واقعة أن يكون البيطار تعرض لتهديد مباشر وعلني بـ«القبع» من القيادي الأمني في «حزب الله» وفيق صفا! ومقابل إعلان وزير الداخلية السابق محمد فهمي، أنه لن ينفّذ أي مذكرة توقيف، ويمنع ملاحقة المدير العام للأمن العام، أقدم وزير الداخلية الحالي وهو القاضي بسام مولوي على منع الضابطة العدلية من القيام بدورها في تبليغ الاستدعاءات إلى النواب المدعى عليهم، قبل أن يحجب إذن ملاحقة اللواء إبراهيم!

فماذا فعلتَ بهم يا طارق البيطار؟ اتّحدوا ضد محكمة هم من اختاروها لأنهم يرفضون التحقيق الدولي، فكم تبدو هزيلة وهشّة كل المنظومة التي أفسدت ونهبت وأفقرت وتحتمي ببندقية لا شرعية! ولأن السير بالتحقيق حتى خواتيمه من شأنه خلخلة كل الطبقة السياسية المدانة داخلياً، والمتهمة خارجياً، تدخّل مجدداً حامل الأختام حسن نصر الله، طالباً كفّ يد البيطار «لأنه يعمل بالاستهداف السياسي» وبعد دعوته إلى «الاكتفاء بالتحقيق الأوّلي الذي يردّ الجريمة إلى (التلحيم)»! أنذر مجلس القضاء والحكومة بالتخلص من البيطار وإلاّ، ولا يتراجع القاضي الشجاع! فيطلق «الحزب» التهديد باقتلاع «الأميركيين» من المؤسسات، ويعلن النائب حسن عز الدين أن «أميركا تريد التحقيق مفتوحاً كي يؤثر على الانتخابات لتغيير المعادلة القائمة»!

لقد باتت الحقيقة في جريمة تفجير المرفأ، والعدالة والمحاسبة، رافعة لا بديل عنها لكل الوضع اللبناني. كل خطوة إلى الأمام تقرّب اللبنانيين باتجاه محاسبة الفاسدين المتحكمين، وتقرّبهم أكثر نحو الهدف الأكبر وهو استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح. الحقيقة والعدالة هما وجه الميدالية التي يحمل وجهها الآخر استعادة السيادة، والاقتراب من زمن المحاسبة لا يكون فقط بالدعاء لقاضي التحقيق، بل بابتداع كل أشكال التحرك الشعبي، حمايةً لمسار التحقيق وللقاضي، وآن للبنانيين الخروج من حالة الموت السريري المخيفة!عن “الشرق الأوسط”


تعليقات الموقع