تكنولوجيا تُعيد الحياة لأيادٍ مشلولة

الرئيسية مقالات
محمد منصور:صحفي علمي
تكنولوجيا تُعيد الحياة لأيادٍ مشلولة

 

تكنولوجيا تُعيد الحياة لأيادٍ مشلولة

 

 

 

 

داخل مطبخها، تقف السيدة “هيذر رندوليك” لتُعد الطعام بذراعٍ واحدة، فقد فقدت القدرة على التحكم في ذراعها اليسرى بعد سلسلة من السكتات الدماغية من جرَّاء إصابتها بـ”ورم وعائي كهفي”؛ إذ أجبرتها تلك السكتات على الخضوع لجراحة عاجلة في عام 2012.

تقول تلك السيدة الأمريكية إن العيش بيدٍ واحدة “كان أكبر تحديات حياتها”، والآن، لم تعد “هيدز” مضطرةً إلى إمساك أطباق الطعام بيدها اليمنى فقط، كما أنها لم تعُد أيضًا بحاجة إلى تلقِّي مساعدة من أجل تقطيع اللحم.

ففي عام 2021، وافقت “هيدز” على الدخول في تجربة سريرية “لمساعدة فريق بحثي على معرفة إذا ما كان تحفيز العمود الفقري يُمكن أن يُساعد في حل مشكلتها، ومشكلة آلاف غيرها”.

وبفضل تلك التجربة، تستطيع “هيدز” إمساك علب الحساء، والتقاط قطع الإسفنج الصغيرة، والتحكم بشكل جيد في ذراعها بعد أن فقدت ذلك الإحساس -إحساس التحكم- طيلة 9 سنوات كاملة.

 

أدلة أولية

نجحت “هيدز” في ذلك بفضل التحفيز الكهربائي للحبل الشوكي العنقي، الذي أدى على الفور إلى تحسين حركات الذراع واليد الحركية وقوتها لدى مريضين -أحدهما هيدز- مصابَين بضعف عضلي مزمن بعد السكتة الدماغية.

وتوفر الدراسة المنشورة في دورية “نيتشر ميديسن” بيانات أدلة أولية لإمكانية استخدام تحفيز الحبل الشوكي كنهج لاستعادة حركة الأطراف العلوية بعد السكتات الدماغية.

على الصعيد العالمي، يعاني واحد من كل أربعة أشخاص من السكتة الدماغية، من بين هؤلاء الأشخاص، سيُظهر ما يقرب من ثلاثة أرباعهم عجزًا دائمًا في التحكم في حركة أذرعتهم وأيديهم، مما يتسبب في تأثير شخصي ومجتمعي هائل، ويستمر هذا العجز الحركي جزئيًّا بسبب فشل نهج إعادة التأهيل العصبي الحالية في الحد بشكل كبير من ضعف الأطراف العلوية.

 

نقل الرسائل

لكن لماذا يحدث الشلل في بعض مرضى السكتات الدماغية؟ تشير الدراسة إلى أن “النخاع الشوكي عبارة عن منطقة كبيرة من الأعصاب تعمل عموديًّا في منتصف ظهر الشخص، وهي جزء من الجهاز العصبي المركزي”.

ونظرًا إلى ارتباطه بالدماغ، فإن النخاع الشوكي مسؤول عن نقل الرسائل من الدماغ التي تخبر الأطراف بالتحرك وتساعد في التحكم في وظائف الجسم، مثل التنفس ومعدل ضربات القلب، وينقل الحبل الشوكي أيضًا الرسائل من أجزاء الجسم المختلفة إلى الدماغ، ما يتيح للشخص تسجيل الأحاسيس مثل اللمس والألم، وحين تحدث السكتات الدماغية، يحدث اضطراب في الإشارات العصبية -يعتمد على نوع السكتة ومكانها- بين النخاع الشوكي والدماغ، ويُسبب ذلك الاضطراب نوعًا من أنواع العجز.

ويظهر ذلك العجز في عدة صور، منها فقدان قوة التحكم في اليدين -أو إحداهما- واضطرابات العضلات، وتقول الدراسات إن ذلك النوع من “الشلل الجزئي” ينجم عن الضرر الذي لحق بالقناة النخاعية التي تسكن الحبل الشوكي؛ إذ تتعطل الروابط العصبية بين القشرة ودوائر العمود الفقري العنقية العصبية التي تتحكم في حركات الذراع.

 

الفرضية الرئيسية

يوضح “ماركو كابوجروسو” -الباحث بقسم جراحة الأعصاب بجامعة بيتسبرج الأمريكية- في تصريحات خلال مؤتمر صحفي عُقد لمناقشة تلك الدراسة حضرته مجلة “للعلم”، أن “بداية الدراسة جاءت بافتراض يتعلق بحجم الضرر الذي يلحق بالقناة النخاعية”.

فقد افترض الباحثون أن المرضى يُمكنهم إعادة التحكم في أذرعتهم من خلال تضخيم إشارات الجزء السليم في القناة النخاعية، فمن خلال تعديل استثارة دوائر العمود الفقري -دون المساس به- يُمكن استعادة التحكم في الأطراف.

لكن، كيف يُمكن تعديل استثارة تلك الدوائر؟ هنا يأتي دور “تحفيز الحبل الشوكي في حيز فوق الجافية”، وهي تقنية معتمَدة سريريًّا تُعد الشكل الأكثر شيوعًا من التحفيز العصبي.

وحيز فوق الجافية هي منطقة في العمود الفقري تقع في الجزء الخارجي من القناة النخاعية، وتحتوي تلك المنطقة على جذور الأعصاب الشوكية وشبكة من الضفائر الوريدية الداخلية وأنسجة ضامة رخوة وأنسجة دهنية، علاوةً على مجموعة من الشرايين الصغيرة.

في عملية التحفيز تلك، تُدخَل الأقطاب الكهربائية في ذلك الحيز، وتُطلِق تلك الأقطاب نبضات كهربائية تستثير الأعصاب وتُضخم إشاراتها وتحسِّن حركة الذراع واليد على الفور، تقول المريضة “هيدز”: إن تلك الطريقة “غير مؤلمة على الإطلاق، لكن تحتاج إلى الاعتياد على وجود الأقطاب”.

 

سكين لقطعة لحم

تُمكِّن الطريقة الأشخاص المصابين بالسكتة الدماغية المتوسطة إلى الشديدة من القيام بأنشطتهم اليومية العادية بسهولة أكبر عبر زراعة زوج من الأقطاب المعدنية الرفيعة التي تشبه خيوط “السباجيتي” المزروعة على طول الرقبة، وتسمح تلك الأقطاب بإشراك الدوائر العصبية السليمة في عملية تحريك الذراع، مما يسمح لمرضى السكتة الدماغية بفتح قبضتهم وإغلاقها بالكامل، ورفع ذراعهم فوق رؤوسهم، أو استخدام شوكة وسكين لقطع قطعة من شريحة لحم.

يقول الباحثون: “إن التحفيز الكهربائي لمناطق معينة من الحبل الشوكي يُمكّن المرضى من تحريك أذرعتهم بطرق لا يستطيعون فعلها من دون التحفيز”.

لكن الأمر الأكثر إثارةً للاهتمام هو أن الباحثين وجدوا أنه بعد أسابيع قليلة من الاستخدام، فإن بعض المكاسب المتعلقة بقدرة المرضى على تحريك أذرعتهم تستمر عند إيقاف التحفيز، مما يشير إلى طرق مثيرة لمستقبل علاجات السكتة الدماغية.

وبعد سنوات من الأبحاث قبل السريرية، قام الباحثون بتطوير بروتوكول تحفيز عملي وسهل الاستخدام يتكيف مع التقنيات السريرية الحالية المعتمدة من إدارة الغذاء والدواء، والتي يمكن ترجمتها بسهولة إلى المستشفى ونقلها بسرعة من المختبر إلى العيادة.

 

حلول فعالة

في الوقت الحالي، لا توجد علاجات فعالة لحالات الشلل الناجمة عن الجلطات، والتي يُطلق عليها المرحلة المزمنة من السكتة الدماغية، والتي تبدأ بعد حوالي ستة أشهر من حادثة السكتة الدماغية.

ويؤكد الباحثون أن التكنولوجيا الجديدة لها القدرة على توفير الأمل للأشخاص الذين يعانون من إعاقات يمكن اعتبارها لولا ذلك دائمة.

 

من جهتها، تشير “إلفيرا بيرونديني” -الأستاذ المساعد في الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل في جامعة بيتسبرج- إلى أن “إيجاد حلول فعالة لإعادة التأهيل العصبي إلى الأشخاص المتأثرين بضعف الحركة بعد السكتة الدماغية أصبح أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى”.

تقول “بيرونديني”: حتى العجز الطفيف الناتج عن السكتة الدماغية يمكن أن يعزل الناس عن الحياة الاجتماعية والمهنية ويصبح منهِكًا للغاية بسبب الإعاقات الحركية في الذراع واليد التي تعوق الأنشطة اليومية البسيطة، مثل الكتابة وتناول الطعام وارتداء الملابس.

وتستخدم تقنية تحفيز النخاع الشوكي مجموعةً من الأقطاب الكهربائية الموضوعة على سطح الحبل الشوكي لتوصيل نبضات كهربائية تنشط الخلايا العصبية داخل الحبل الشوكي، وتُستخدم هذه التقنية بالفعل في علاج الآلام الشديدة والمستمرة، وبالإضافة إلى ذلك، أظهرت مجموعات بحثية متعددة حول العالم أنه يمكن استخدام تحفيز الحبل الشوكي لاستعادة حركة الساقين بعد إصابة الحبل الشوكي.

 

ووفق الدراسة، فإن “البراعة الفريدة لليد البشرية، جنبًا إلى جنب مع النطاق الواسع لحركة الذراع عند الكتف، وتعقيد الإشارات العصبية التي تتحكم في الذراع واليد، تضيف مجموعةً أكبر بكثير من التحديات.

 

دراسات سريرية

استلزم الأمر سنوات من الدراسات قبل السريرية المكثفة التي اشتملت على نمذجة الكمبيوتر واختبار الحيوانات في قرود المكاك مع شلل جزئي في الذراع، قبل أن يتم السماح للباحثين باختبار هذا العلاج الأمثل على البشر.

تقول “هيدز”: لا نستطع التحكم فيما حدث لنا، لكننا نستطيع أن نتحكم في الطريقة التي نتعامل بها مع الأمر، لذا وافقت على الانضمام إلى تلك التجربة.

في سلسلة من الاختبارات التي تم تصميمها خصوصًا مع اثنين من المرضى، مكّن التحفيز المشاركين من أداء مهمات مختلفة التعقيد، من تحريك أسطوانة معدنية مجوفة إلى الإمساك بالأشياء المنزلية الشائعة، مثل علبة الحساء، وفتح قفل.

وأظهرت التقييمات السريرية أن التحفيز الذي يستهدف جذور الأعصاب العنقية -المسؤولة عن وظيفة الذراع- يحسِّن على الفور من قوة الحركة ونطاقها ووظيفة الذراع واليد.

 

مستقبل علاج الشلل

تقول “كلوديا كاثي” -الباحثة في قسم الأعصاب بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا، وغير المشاركة في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: إن تقنيات تحفيز الحبل الشوكي هي مستقبل علاج ذلك النوع من الشلل، وهذه التقنية موثوقة وآمنة، كما أنها ليست باضعة ولا تحتاج إلى تدخلات جراحية كبيرة.

لكن “كاثي” تعود فتؤكد أنه يجب إجراء مزيد من التجارب على عدد أكبر من المرضى للتأكد من تكرار النتائج، وهو ما يُخطط له الفريق البحثي بالفعل، وفق ما قاله “كابوجروسو” خلال المؤتمر الصحفي.

من جهته، يقول “دوجلاس ويبر”، أستاذ الهندسة الميكانيكية في معهد العلوم العصبية في كارنيجي، والمؤلف المشارك في الدراسة: “إن الأعصاب الحسية تُرسل من الذراع واليد إشارات إلى الخلايا العصبية الحركية في النخاع الشوكي التي تتحكم في عضلات الطرف، ومن خلال تحفيز هذه الأعصاب الحسية، يمكننا تضخيم نشاط العضلات التي أضعفتها السكتة الدماغية، والأهم من ذلك أن المريض يحتفظ بالسيطرة الكاملة على تحركاته، والتحفيز يساعد على تنشيط العضلات ويقويها فقط عندما يحاول المرضى التحرك”.

ووفق الدراسة، يُمكن استخدام ذلك النوع من التحفيز كطريقة مساعدة وترميمية لاستعادة الطرف العلوي؛ فالتأثيرات الفورية للتحفيز تمكِّن من إدارة التدريب البدني المكثف الذي بدوره يمكن أن يؤدي إلى تحسينات أقوى على المدى الطويل في غياب التحفيز.

تقول “بيرونديني” في تصريحات خلال المؤتمر الصحفي: إن تلك التقنية جعلت الأمور المعتادة التي لا يستطيع المرضى القيام بها سهلة، أصبح تناول الطعام والشرب، وحتى الكتابة، أمورًا يستطيع المرضى فعلها الآن.

بدوره، يقول “ويبر”: إن تلك التقنية ستساعد ملايين المرضى حول العالم على استعادة وظائفهم الحركية المفقودة.

عن أميركان سيانتافيك