يشهد النظام المالي العالمي، منذ سنوات، تحولات عديدة ومتزامنة أدت إلى تغيرات واسعة النطاق سواءً على مستوى الخدمات المقدمة أو توجهات المتعاملين والمستهلكين. وقد ساهمت التطورات الرقمية وسرعة انتشار التقنيات المتطورة في إحداث تغيرات ملموسة في نماذج الأعمال السائدة في أسواق رأس المال. وبدورها، تشهد احتياجات وتوقعات المستثمرين والشركات المُصْدرة في الأسواق المالية تغيرات وتطورات ملحوظة، لا سيّما مع انضمام مجموعة متنوعة من الجهات النشطة والفاعلة إلى قاعدة المؤسسات المالية التقليدية لتلبية المتطلبات الجديدة والمتنامية.
ووسط هذا المشهد الجديد وتغيراته الديناميكية المتسارعة، يواصل القطاع المالي مسار تحوله الرقمي عبر كل مجالاته وخدماته، ليس هذا فحسب، بل يستمر القطاع في تبني المزيد والمزيد من التقنيات والحلول الرقمية للارتقاء بجودة وكفاءة الخدمات المالية المقدمة. وكما هو ملحوظ، فقد استجاب المستهلكون لهذه التغيرات التي حملت معها مستويات جديدة من السهولة والكفاءة في إجراء المدفوعات والتحويلات المالية والتي تُعد أهم فوائد “الرقمنة”. ووفقاً لقاعدة بيانات المؤشر العالمي للشمول المالي التي أصدرها البنك الدولي، مؤخراً، فإن %76 من البالغين في كل أنحاء العالم بات لديهم حساب مصرفي، أو حساب على الهاتف المحمول.
وبالنظر إلى هذه التطورات، فإن ما يعرف بـ “التثقيف المالي” يشكل اليوم حجر عثرة رئيسي بالنسبة للمستثمرين والمتداولين حول العالم وضمن فئة الشباب بالتحديد. فقد كشفت دراسة دولية أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2020، أن %17 فقط من البالغين الذين شملهم الاستبيان صنفوا معرفتهم المالية على أنها عالية. وهذه النسبة مقلقة للغاية، بالنظر إلى أهمية أن يتمتع الجميع بدراية ومعرفة حول كيفية استكشاف الفرص التي توفرها الأسواق المالية اليوم، حيث تفرض الأنظمة المالية المعقدة على المستهلكين اتخاذ قرارات لإدارة شؤونهم المالية.
جيل جديد آخذٌ في الظهور
وتأتي فجوة “التثقيف المالي”، جزئياً، نتيجة دخول شريحة جديدة من المتعاملين أصغر سناً إلى سوق رأس المال، كما هو موضح في استبيان استثمارات التجزئة 2022 الذي أجرته مؤسسة “بي إن واي ميلون” بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، حيث تشير مخرجات الاستبيان إلى أن ما يصل إلى %70 من مستثمري التجزئة هم أفراد تقل أعمارهم عن 45 عاماً. ولم يكن لدى معظم مستثمري التجزئة خبرات أو معرفة مبكّرة حول مبادئ الاستثمار – فقد اكتسب %55 من مستثمري التجزئة معرفتهم حول عالم الاستثمار فقط بعد دخولهم المجال، كما أن أقل من %10 تعلّموا عن الاستثمار في مرحلة التعليم المبكّر، ما أدى إلى حدوث فجوة في ثقافتهم المالية في وقتٍ لاحق من حياتهم. وتفضّل الغالبية والتي تمثل نسبة %74 الحصول على المزيد من فرص التعلّم في مجال الشؤون المالية، وذلك لدعم الأنشطة الاستثمارية بشكل أفضل. وعلاوة على ذلك، فإن %31 من غير المستثمرين كان من المرجح دخولهم عالم الاستثمار المالي لو كانت لديهم فرص أفضل لاكتساب المعرفة والمهارات.
وقد سهلّت مواقع التواصل الاجتماعي وسرّعت وتيرة مشاركة المعلومات على نطاق واسع، ما أدى إلى إحداث تغيير واضح عندما يتعلق الأمر بجمع المعلومات المالية والعمل بناءً عليها. ومع ذلك، غالباً ما يكون من الصعب في كثير من الأحيان معرفة ما إذا كانت المعلومات المتداولة تستند إلى أساسيات مالية فعلية، أو منظور شخصي، أو نصائح من شخص ما استناداً إلى تجربته الشخصية.
ويمثل ذلك فرصة لإشراك وتمكين الأفراد الذين يمكنهم تحمل مسؤولية مستقبلهم المالي من خلال المشاركة في الأسواق المالية. وسواءً كانوا يستثمرون حالياً أم لا، من الضروري للغاية أن يساهم روّاد القطاع وقادته في تمكين الأفراد من اتخاذ القرارات المالية المثلى لتحسين حياتهم.
دور قادة القطاع المالي
يحتاج المستثمر العادي إلى التمتع بفهم أوسع حول الأسباب التي تدفعه لدخول عالم الاستثمار وكيفية الاستثمار، الأمر الذي يخلق إمكانات جديدة للهيئات التنظيمية في السوق والمؤسسات المالية للعمل على نحو تعاوني وثيق. ولمساعدة الأفراد على رؤية فوائد المشاركة في أسواق رأس المال، يمكن للشركات تحسين تواصلها بشأن القيمة المقترحة للاستثمار، حتى لو كان ذلك يعني دفع بعض الرسوم والخدمات.
أولاً، ينبغي البدء بتعليم مهارات التثقيف المالي في سن مبكرة، وينبغي أن تربط هذه المعرفة بين الصحة المالية الأساسية، والممارسات المتقدمة للاستثمار والتقاعد. ويجب العمل أيضاً على توفير برامج التثقيف المالي جنباً إلى جنب مع فرص الاستثمار.
ثانياً، يجب أن تتركز جهود المشاركين في القطاع على زيادة التثقيف المالي على نطاق واسع، وتعزيز استراتيجيات الاستثمار المسؤول، كما يجب على الشركات تحسين استراتيجياتها لتلبية متطلبات المستثمرين المعاصرين. وتتطلب هذه الرؤية اتخاذ خطوات قصيرة وطويلة المدى على حد سواء لكي يتم تحقيقها.
ثالثاً، يجب أن تمنح منظومة أسواق رأس المال جميع المستثمرين، بغض النظر عن حجم الأموال التي يمتلكونها، إمكانية الوصول إلى الأدوات والمشورة التي يحتاجون إليها في كل الأوقات. ولكي يتمكن القطاع المالي من مواصلة تحقيق نجاحات مستدامة في ظل التحولات الرقمية المتزايدة التي نشهدها اليوم، يجب العمل على تعزيز إمكانية وصول الأفراد إلى الاستشارات التي يبحثون عنها. ويمكن أن تساعد التكنولوجيا في دعم هذا الجهد من خلال توفير حلول فعّالة من حيث التكلفة، تقلل من التعقيدات التي ينطوي عليها عالم الاستثمار، وتسمح في الوقت نفسه للأفراد بإدارة مواردهم المالية بثقة أكبر.
ويشكل فهم التحول الذي تقوده التطورات التكنولوجية السريعة، وسد الفجوات الملحوظة على صعيد المعرفة الرقمية والمالية، ركيزتين أساسيتين لتسريع وتيرة اعتماد الخدمات المالية المتقدمة، وضمان مستوى عالٍ من المرونة المالية طويلة الأجل للأفراد والشركات – والاقتصادات أيضاً.
بقلم: محمد رسول الرئيس التنفيذي لشركة أمانة
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.