تواجه جهود الإغاثة الإنسانية في مناطق الصراع مخاطر كبيرة نتيجة الهجمات المُحتملة على عمّال الإغاثة والشحنات الإغاثية؛ مما يعوق تسليم المساعدات للمدنيين؛ إذ شهد عام 2023 سقوط العدد الأكبر من عمّال الإغاثة الإنسانية، بإجمالي قتلى 280 شخصاً – غالبيتهم في غزة- وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة.
ورغم وجود أُطُر قانونية قائمة ومُتفق عليها لحماية عمليات الإغاثة الإنسانية والقائمين عليها؛ فإن أن أطراف الصراع غالباً ما تتجاهل هذه القوانين؛ مما يؤدي إلى زيادة المخاطر التي تواجه كافة مراحل العمليات الإغاثية والإنسانية، ويؤدي لتعطيل هذه العمليات المُنقذة للحياة، والتي تستهدف حق المدنيين في الوصول إلى الإغاثة الإنسانية خلال فترات الكوارث والصراعات، ولكي يحصل المدنيين على هذا الحق يجب أن يتمتع العاملون في المجال الإنساني بالوصول إلى هذه الفئات دون عوائق وضمان الظروف التي تسمح لهم بالقيام بما يحتاجون إلى القيام به.
يُوفر القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف وروما، إرشادات لحماية العاملين في المجال الإنساني والأصول أثناء النزاعات المسلحة، كما توجد مجموعة من التدابير التي يمكن تنفيذها لضمان سلامة وأمن عمليات الإغاثة الإنسانية، وتشمل هذه التدابير التفاوض على الوصول مع جميع أطراف الصراع، والحفاظ على الحياد والنزاهة الصارميْن، واستخدام قنوات الاتصال الآمنة، وضمان التدريب المُناسب للموظفين على الأساليب الحسّاسة للصراع، إلّا أن أبرز ضمان لحماية العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية هو التزام أطراف النزاع بقواعد القانون الدولي الإنساني وضمان وصول الإغاثة اللازمة للمدنيين داخل مناطق الصراع.
مظلّة واسعة:
يضمن حقوق المدنيين والعاملين في المجال الإغاثي في أوقات الحروب مظلّة واسعة من الترتيبات القانونية والتنفيذية والأمنية وكذلك التكنولوجية؛ فمن الناحية القانونية، يُعد فرض الامتثال للقواعد القانونية والمساءلة عن الهجمات على العاملين في المجال الإنساني والأصول أمراً بالغ الأهمية؛ إذ يجب على الدول أن تفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي باحترام وحماية العاملين في المجال الإنساني عبر تعزيز آليات لمقاضاة مُرتكبي مثل هذه الهجمات؛ مما يعمل كرادع من ناحية ومن ناحية أخرى يعمل على تعزيز الامتثال للمعايير الإنسانية الدولية.
وتتطلب حماية تدفقات الإغاثة الإنسانية كذلك نهجاً متعدد الأوجه يجمع بين الأطر القانونية، والاستراتيجيات الميدانية، والحلول التكنولوجية، والمشاركة المجتمعية، والتفكير الإبداعي ومن خلال إعطاء الأولوية لسلامة العاملين في مجال الإغاثة وسلاسل التوريد في المناطق المتضررة من الصراع عبر هذه الوسائل مُجتمعة، فيمكن ضمان وصول المساعدات المنقذة للحياة إلى أولئك الذين هم في أمس الحاجة إليها وحماية القائمين عليها.
- مبادئ أساسية عامة لحماية المدنيين: تستمد المنظمات الإنسانية والإغاثية حقها في العمل في مناطق النزاع من مبادئ أساسية؛ تسمح لهذه المنظمات الإنسانية بالعمل في أوقات الحرب والصراع المُسلح طبقاً للقانون الإنساني الدولي المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات المُضافة في عام 1977، وتشمل هذه المبادئ الإنسانية والحياد وعدم التحيز والاستقلال.
- الحماية التي توفرها الاتفاقيات الدولية: تُعد اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب أبرز الأسس القانونية لحماية عمال الإغاثة والمدنيين في أوقات الصراع والاشتباكات المسلحة وتنض على وجوب “احترام وحماية الموظفين المُخصّصين كلية بصورة مُنتظمة لتشغيل وإدارة المستشفيات المدنية، بمن فيهم الأشخاص المكلفون بالبحث عن الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء وجمعهم ونقلهم ومعالجتهم”، ووفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن “توجيه هجمات مُتعمّدة ضد أفراد أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات تشارك في مهمة إنسانية أو حفظ سلام بموجب ميثاق الأمم المتحدة، طالما أنهم يستحقون الحماية الممنوحة للمدنيين أو الأهداف المدنية بموجب القانون الدولي للصراع المسلح” يُعد جريمة حرب، من ناحية أخرى أصبحت حماية العاملين في المجال الإنساني والإغاثي قاعدة إلزامية من قواعد القانون العرفي، ملزمة لجميع الأطراف في النزاعات المسلحة.
- التجهيزات الأمنية اللازمة: بجانب الحماية القانونية التي توفرها الاتفاقيات الدولية فإن المنظمات الإنسانية والإغاثية باتت تنفق بشكل مُتزايد على التجهيز الأمني اللازم لحماية قوافلها والعاملين فيها وذلك بسبب المخاوف الأمنية المتزايدة خلال فترات الصراع؛ إذ تنفق المنظمات العاملة في مناطق الصراع المزيد من الوقت والموارد على فحص موظفيها على نطاق واسع، وتجهيز قوافل المساعدات بحماية أمنية باهظة الثمن وتأمين المستودعات بما يضمن حماية المدنيين والعاملين معاً، ويشمل هذا التفاوض والتنسيق مع الأطراف المُتحاربة لنقل وتوزيع المساعدات والخدمات الطبية للسكان المدنيين خارج مناطق القتال النشطة من خلال الممرات الإنسانية وقوافل المساعدات.
- الاعتماد على الابتكار والتكنولوجيا: باتت كذلك الوسائل التكنولوجية الحديثة أحد وسائل حماية العاملين في المجال الإنساني خلال فترات الحروب والصراعات خاصة استخدام الأفكار المُبتكرة مثل: إنشاء ممرات آمنة أو مناطق محميّة لتسليم المساعدات، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة مثل: أجهزة تتبع الشحنات، والطائرات من دون طيار لمراقبة المناطق غير الآمنة، وأنظمة إدارة البيانات الآمنة بما يمكن أن يُعزز تدفقات الإغاثة.
الأزمة في غزة والإغاثة الإنسانية:
أظهرت الحرب في غزة على نطاق واسع كيف أن كافة الضمانات الأمنية والقانونية لحماية المدنيين والعاملين في مجال الإغاثة الإنسانية، يمكن ألا تضمن فعلياً منع الهجمات على عمّال الإغاثة الإنسانية أثناء الصراعات بشكل تام، وأظهر الصراع الذي اندلع في أكتوبر 2023 أن الهجمات على العاملين في المجال الإنساني لا تزال تمثل احتمالاً قائماً وأحد المخاطر القائمة بالفعل خلال النزاعات، ويمكن الإشارة إلى التالي:
- تناسب المخاطر وزيادة النزاعات: أدّى ارتفاع عدد النزاعات المُسلحة إلى تزايد المخاطرة تجاه عمّال الإغاثة الإنسانية؛ إذ قُتل أكثر من 196 عاملاً في المجال الإنساني في غزة منذ أكتوبر الماضي بما في ذلك 175 على الأقل من العاملين في الأمم المتحدة، ويمثل هذا العدد ثلاثة أضعاف عدد القتلى المُسجّل في أي نزاع آخر خلال عام واحد، وبجانب غزة، سجلت كل من السودان وجنوب السودان أعداداً مُرتفعة من القتلى بين العاملين الإنسانيين، مع 25 و34 حالة وفاة على التوالي.
- محورية أزمة غزة: على الرغم من اندلاع عدد من الأزمات والنزاعات المسلحة في أوكرانيا واليمن وسوريا وغيرها من المناطق؛ فإن أزمة غزة كانت بؤرة لاستهداف العاملين في المجال الإنساني؛ إذ شهدت غزة بعكس الصراعات الأخرى حوادث استهداف مُباشرة للعاملين في المجال الإنساني والإغاثي، ففي واحدة من أكثر الهجمات تدميراً على العاملين في المجال الإنساني، سقطت قافلة من فريق المطبخ المركزي العالمي (WCK)، ضحية لضربة من قبل القوات الإسرائيلية في غزة، وذلك أثناء مغادرتها أحد المستودعات؛ مما أسفر عن وفاة مأساوية لأفراد من أستراليا وبولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وفلسطين.
- مسؤولية القوة القائمة بالاحتلال في حماية عمال الإغاثة: ينص القانون الدولي الإنساني على مسؤولية الدولة القائمة بالاحتلال فيما يتعلق بتوفير المساعدات الإنسانية وحمايتها وتيسير توزيعها الآمن على السكان المدنيين واتخاذ الخطوات اللازمة لضمان توزيع المساعدات بحرية وأمان على المدنيين في جميع أنحاء المناطق المحتلة، بما في ذلك ضمان حرية التنقل الآمن لجميع العاملين في المجال الإنساني.
وفي التقدير؛ يمكن القول إن النزاعات الأخيرة؛ خاصة الأزمة في غزة أظهرت قصور القواعد القانونية والتدابير الأمنية الأخرى الخاصة بحماية مُنظمات وعمّال وشحنات الإغاثة المُنقذة للحياة؛ وهو ما قد يتطلب مراجعة دولية للقواعد المنظمة للعمل الإنساني، وأدوات حمايته، بالإضافة إلى منظومة العقاب والردع الخاصة باستهداف عمال الإغاثة الإنسانية، وضعاً في الاعتبار تزايد حدّة الصراعات عالمياً واعتماد حياة آلاف المدنيين على أعمال الإغاثة الإنسانية؛ ومن ثم فمن المُرجّح أن يتم طرح إدخال بعض التعديلات على الاتفاقيات القانونية المنظمة لذلك، ولاسيما اتفاقية جنيف باعتبارها الوثيقة الأساسية المنظمة لهذا الأمر.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.