أثارت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي ستجرى في أواخر عام 2024، نقاشاً عالمياً جدياً حول مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية. كان تركيز الولايات المتحدة الأساسي فيما مضى منصباً على الاتحاد السوفيتي، ولكن مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، حول المحللون السياسيون تركيزهم نحو آسيا، وبالأخص نحو محاولة استقراء قدرة الصين على المنافسة.
بينما أدت الأحداث والتطورات العالمية الأخيرة، مثل: حرب أوكرانيا – والتوترات التي تلت ذلك مع روسيا – والصراع في غزة، إلى تحويل الانتباه مؤقتاً عن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، يظل هذا الملف محورياً للغاية.
وعلى مدار مسيرتي الدبلوماسية الطويلة، كان لي شرف مقابلة مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، بما في ذلك وزراء الخارجية، والاستماع إليهم يتبادلون أفكارهم حول أولويات السياسة الخارجية الأمريكية والقوى الدافعة لها. وكانت الفكرة الثابتة التي كونتها هي أن السياسة الخارجية الأمريكية يتم تحفيزها دائماً من خلال “العدو المُتصور”، فهو المبرر الأكثر إقناعاً على مستوى الداخل الأمريكي للتكلفة الباهظة والمخاطر المرتفعة المرتبطة بممارسة أمريكا للسلطة والنفوذ على مستوى العالم.
على الجانب الآخر، أتاحت لي أيضاً خبراتي الدبلوماسية فرصاً كثيرة للتعامل مع مسؤولين صينيين رفيعي المستوى فيما يتعلق بسياسة الصين الخارجية. وهكذا، فإن ملاحظاتي هنا تتشكل من خلال فهمي للسياسة والدبلوماسية الخارجية الأمريكية، ولوجهات النظر الصينية حول المفاهيم والسياسات الأمريكية المتعلقة ببكين؛ ولذا فإن لهذه الملاحظات أهمية خاصة لأنها تؤثر بشكل كبير في التوقعات المتعلقة بالإدارة الأمريكية القادمة، خلال السنوات المقبلة. سواء أكانت بإدارة هاريس أم ترامب.
بكين.. تهديد متزايد:
نتج عن نمو الصين البطيء في البداية، بالإضافة إلى مواقفها السياسية الخارجية الحذرة، تصنيفها تحت مظلة العالم النامي؛ مما أدى إلى تهدئة المخاوف الأمريكية تجاه بكين. ثم أعقب هذه الفترة من اللامبالاة النسبية، محاولات لدفع التنمية الاجتماعية والسياسية في الصين من خلال استراتيجيات وأدوات اقتصادية، ولاسيما من خلال تشجيع التجارة الأكثر كفاءة/نجاحاً، وتعزيز الشهية المتزايدة للنزعة الاستهلاكية.
توافقت هذه الاستراتيجيات الاقتصادية بسلاسة مع برامج الرئيس الأسبق، دنغ شياو بينغ، الإصلاحية بالصين، والتي تضمنت تطوير “اقتصاد السوق الاشتراكي”، وسياسات التحول إلى مؤسسات وشركات كبرى، وتشجيع القطاع الخاص؛ نتج عن تلك السياسات تزايد الثقل الاقتصادي لبكين وأصبحت أكثر قدرة على المنافسة بالأسواق العالمية. وهنا بدأت المخاوف الأمريكية الكامنة، في الظهور على السطح.
أتذكر بوضوح مخاوف الخبراء والمثقفين والنقاشات الساخنة التي دارت بينهم في مطلع القرن الماضي، والتي كانت تحذر من إمكانية استحواذ الصين على شركات أمريكية بقارة آسيا. ثم تزايدت هذه المخاوف عقب تولي شي جين بينغ، الأكثر إصراراً وحزماً، منصب الرئاسة، ووصلت إلى ذروتها في أعقاب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني. ومنذ أكتوبر 2022، عقد الحزب ثلاث جلسات عامة سنوية، كانت التطلعات الاقتصادية وكذلك السياسات الأمنية فيها بارزة وجلية.
إن الحرب الأوكرانية الروسية كانت سبباً في تفاقم القلق الغربي، وخاصة الولايات المتحدة؛ إذ سادت عقلية “إما معنا أو ضدنا” إلى حد كبير. أما في المقابل؛ فإن الصين قد تبنت نهجاً مدروساً في التعامل مع هذا الصراع، فامتنعت عن توبيخ روسيا إلا في حالة قيام الأخيرة بالتهديد باستخدام أسلحة نووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل.
وقد أدى هذا الموقف إلى تفاقم المخاوف الأمريكية المتعلقة بانتشار التكنولوجيا الصينية، وزيادة وزن بكين اقتصادياً، ونشر بصمتها بالأسواق العالمية، وزيادة دورها كمستهلك للطاقة والمعادن، وتنامي نفوذها في آسيا.
الصين والانتخابات الأمريكية:
تعكس وثائق الأمن القومي الأمريكية والبيانات الرسمية الصادرة عن إداراتي بايدن وترامب بوضوح أن التيار السائد في أمريكا اليوم ينظر إلى الصين – وليس روسيا – باعتبارها القوة العظمى الأخرى في المستقبل المنظور؛ ومن ثم، أصبحت الصين هي الدولة التي تسبب القدر الأكبر من القلق للولايات المتحدة. والواقع هو أن الهيئة السياسية الأمريكية برمتها الآن منشغلة بالصين، والتي تعتبر إمكاناتها الاقتصادية والتكنولوجية الهائلة منقطعة النظير، حتى مع احتفاظ الولايات المتحدة بنفوذها العسكري والسياسي.
وقد لوحظ مؤخراً أن ترامب قد بدأ على نحو مفاجئ في اتباع سياسة تصادمية تجاه الصين، على النقيض مما اعتاده في خطابه وفي سياسته والتي دائماً ما تروج للصفقات. وامتد هذا النهج التصادمي إلى ما هو أبعد من المسائل الاقتصادية؛ إذ صنف بكين على أنها “قوة رجعية”، بل وخطرة أيضاً. وحتى بايدن التقليدي لم يغير هو الآخر من توجهاته عند توليه منصبه، بل على العكس، فقد قام بتكثيف بعض التدابير تجاه بكين، مثل فرض قيود أكثر صرامة على عمليات نقل التكنولوجيا؛ مما يؤكد بشكل كبير أن كلا الحزبين الأمريكيين ينظر إلى الصين الآن باعتبارها خصماً رئيسياً.
وما أثار استياء الصين ودهشتها معاً هو أن هذه العلاقة الاستراتيجية الحيوية والحساسة تُعالج في أمريكا بطريقة شعبوية؛ الأمر الذي أدى إلى تغذية المخاوف وتفاقمها، بدلاً من تهدئتها. ويتناقض هذا النهج بشكل صارخ مع نهج نيكسون/كيسنجر، والذي كان أكثر حنكة في التعامل مع السياسة العالمية؛ إذ كان يوازن بعناية بين التهديدات والفرص.
وبالنظر إلى توقعات الصين السياسية التقليدية؛ فإن بكين لا تنتظر تحولاً كبيراً في السياسة الأمريكية، بغض النظر عما إذا كانت الانتخابات الرئاسية ستؤدي إلى فوز إدارة هاريس/والز، أو إدارة ترامب/فانس. ومع ذلك، فإن بكين ستستمر في مراقبة اللهجة والتدابير التي ستتخذها الإدارة الأمريكية المقبلة عن كثب. وبما أن الولايات المتحدة يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها في حالة انتقالية، فمن غير المرجح أن تستخلص الصين استنتاجات متسرعة حول سياساتها الآن، خاصة وأنها عايشت سياسات مماثلة من قبل أثناء إدارة كل من ترامب وبايدن، وقد كان ذلك بنبرة عدوانية وتدابير خاضعة للرقابة مع ترامب، ونغمة أكثر خفوتاً ولكن تصاحبها إجراءات حازمة بنفس القدر مع بايدن.
إذا فاز الديمقراطيون، فقد يكون هناك فهم أفضل للثقافة والتاريخ الصيني داخل الإدارة الأمريكية، خاصة وأن المرشح لمنصب نائب الرئيس، تيم والز، قد عاش في الصين لفترة. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أن والز كان أيضاً مدافعاً قوياً عن حقوق الإنسان في الصين؛ مما يوحي بأن العلاقات الأمريكية الصينية لن تكون سلسة تماماً.
وخلاصة الأمر هي أن الصين ما زالت في حيرة من أمرها بشأن الولايات المتحدة ومن سيتم انتخابه، ولكنها تنظر إلى نتيجة الانتخابات الأمريكية القادمة باعتبارها ذات تأثير محدود في الأمد القريب. أما ما تهتم به بكين حقيقة فهو التأثيرات طويلة المدى التي ستخلفها سياسات الإدارة المنتخبة على “النقاش حول الصين”، الجاري في أمريكا الآن.
ثلاثة اتجاهات محتملة:
يمكن تصنيف “النقاش حول الصين” داخل الولايات المتحدة إلى ثلاثة اتجاهات فكرية أساسية، لكل منها أسلوبه وأدواته في التعامل مع بكين.
تضع المجموعة الأولى من المحللين العلاقات الأمريكية الصينية في إطار الحرب الباردة؛ بحجة أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين “يجب الفوز بها، وليس مجرد إدارتها”. في المقابل، تنظر المجموعة الثانية من الاستراتيجيين إلى “المنافسة” بين الطرفين على أنها “وضع قائم بالأحرى إدارته، لا إيجاد حل له” فهي ليست لعبة صفرية وفقاً لهم. بينما ترى المجموعة الثالثة من الاستراتيجيين أن “التكيف” هو النهج الواقعي الوحيد لمواجهة هذا التحدي المستمر بين القوتين.
ورغم هيمنة وجهات النظر الثلاث على الخطاب الأمريكي، فإن الصينيين وحدهم هم القادرون على وصف رؤيتهم للسياسة الخارجية العالمية بدقة، وتوقعاتهم بشأن الولايات المتحدة. فعلى مر السنين كانت بكين تكشف عن موقفها تدريجياً، والذي غالباً ما كان يتضمن عنصر تهديد – كرد فعل – مع التركيز على المصالح المشتركة، ومبادئ التعاون والاحترام في الوقت ذاته. وكان لهذا النهج صدى كبير في العالم النامي.
تدرك بكين تماماً أن العلاقات الصينية الأمريكية لها تأثير كبير، في مصالحها وسياساتها الخارجية؛ ولذا ففي العقود المقبلة ستقوم كلا القوتين بمراقبة الأخرى عن كثب. ونظراً لحجمهما الضخم ونفوذهما الهائل على الساحة العالمية، فمن المهم جداً عدم حدوث أي سوء تفاهم بين الطرفين.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.