نقطة الغليان: كيف تغير نمط “الحرب الثالثة” بين إسرائيل وحزب الله اللبناني؟

مقالات

 

 

 

هل اشتعلت الحرب بين إسرائيل وحزب الله اللبناني؟ أم أنها لا تزال وفق تصور العديد من المراقبين في إسرائيل عند نقطة الغليان أو عتبة ما قبل اندلاع الحرب الشاملة؛ لممارسة أقصى ضغط ممكن على حزب الله للقبول بشروط إسرائيل لتسوية أقرب إلى الاستسلام بدلاً من أن يخوض الحرب من على “كرسي متحرك”. وفي المقابل، لا تزال بيانات حزب الله تتبنى عملية إسناد قطاع غزة، يلي ذلك الانتقام والثأر لقادته وتصوير الموقف على أنه في موقع رد فعل. ومع ذلك، تشير مؤشرات المواجهة بين إسرائيل وحزب الله إلى عكس ما يقوله الأخير، فقد أصبحت هناك حرب مختلفة، من حيث النمط والتمهيد وطبيعة المواجهة.

وفي ضوء الجدل ما بين الإقرار بحالة الحرب أم التحليق على أعلى مستوى في التصعيد، فإن اتجاه القياس على الحروب السابقة، ولاسيما حرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، سواء على مستوى الأداء في الحرب أم حتى النتائج، ينطوي على أخطاء حسابية. فنقطة الانطلاقة الحالية في الحرب الراهنة خلفها قرابة عام من حرب الاستنزاف بعد عملية “طوفان الأقصى”، وحتى بحساب فرق التوقيت الذي يصل إلى ما يقرب من عقدين من الزمن، والذي تغيرت فيه أجيال الحروب والسلاح والتكتيكات والبنية التحتية وكل وسائل الحرب التي يُطلق عليها “حروب الجيل الخامس”.

ومن ثم لا يتعين بالضرورة أن تبدأ الحرب بتدفق دبابات “الميركافا” على طريق طويل يصل إلى بيروت، كما أن انتظار أن يوقف الطرفان الحرب أو جولة التصعيد الحالية على أساس العودة إلى تنفيذ القرار 1701 الذي أنهى حرب عام 2006، يتطلب عملية تفاوض سياسي.

تغير المواجهة:

تعكس المرحلة الأخيرة في المواجهة الحالية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، تغير أنماط المواجهة العسكرية من طرف واحد وهو إسرائيل، بينما لا يزال حزب الله على نفس الدرب، من حيث استراتيجية المواجهة. وهذا الفارق في التغير يعكس حالة التراجع التي يعاني منها حزب الله حالياً؛ لأنه لا يزال غير قادر على التكيف مع المتغيرات أو ابتكار وسائل جديدة للرد، بالنظر إلى أن إحدى نتائج المظاهر الجديدة في المواجهة هي متغير فاعلية القدرات العسكرية. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى عدد من المؤشرات التي تعكس مظاهر التغير في المواجهة بين إسرائيل وحزب الله، كالتالي:

1- ضرب منظومة القيادة والسيطرة لحزب الله: هذا ما تشير إليه مظاهر ضرب هيكل حزب الله من القيادة إلى القاعدة؛ لإحداث عملية شلل وخلل في الاتزان. وأبرز مثال على ذلك هو استهداف شبكة الاتصالات الداخلية لحزب الله، والتي أثرت في قدرة شريحة لوجستية لم يعد بمقدورها الاستجابة لنقل الأوامر من القيادة إلى القواعد. فمن خلال ضربة واحدة، حصدت إسرائيل نتائج هجينة لاختراق استخباري، مع ضرب فئة واسعة من قواعد وقيادات الصف الوسيط، ثم تعطيل القدرة على التواصل، بالإضافة إلى عامل الحرب النفسية لإحباط قواعد وجمهور حزب الله، وتراجع الثقة في الحزب نفسه؛ إذ أصبحت دائرة الثقة في القيادة شبه مفقودة، في ظل الاتهام بتسريب معلومات حساسة أو عدم القدرة على خوض مواجهة متقدمة أو مكافئة للقدرة الإسرائيلية على الاختراق، بالرغم من كل ما يُثار حول تقدم حزب الله في هذا الصدد.

والعامل الآخر هو الضربات الانتقائية النوعية لاستهداف الأوزان الثقيلة في دائرة صُنع واتخاذ القرار والقيادة الميدانية، وترك المستوى السياسي يعاني وسط حالة من الفوضى وعدم القدرة على السيطرة على القيادة العسكرية. وقد أكد المسؤولون العسكريون في إسرائيل هدف تفريغ دائرة القيادة في حزب الله؛ لإضعافه والضغط عليه، وكإجراء انتقامي، على غرار ما أشار إليه وزير الدفاع، يوآف غالانت، عقب عملية اغتيال القائد العسكري الكبير إبراهيم عقيل، بأن المسألة جزء منها كان إغلاق الحساب مع حزب الله بشكل شخصي.

والنقطة المحورية التالية في عملية استهداف القيادة والسيطرة، تتعلق باستهداف “حلقة تصعيد البدلاء”، فقد تم اغتيال قائد كتيبة الرضوان، فؤاد شكر، قبل نحو شهرين تقريباً من اغتيال خليفته إبراهيم عقيل، وفي تسلسل موازٍ يتم اغتيال قادة التشكيلات الرئيسية، مثل قادة المحاور والكتائب. وهذه الانتقائية في الاغتيالات أضرت بدائرة اتخاذ القرار لدى حزب الله، وعلى الرغم من وجود هيكل في تسلسل القيادة؛ فإنه لا يمكن الرهان على أن عملية التسلسل الهرمي ستكون سلسة مع كسر حلقاتها الواحدة تلو الأخرى.

2- الأخطاء الحسابية في القياس و”متغير النمط”: في واقع الأمر، لا يتعين القياس على حرب 2006، أو غيرها من الحروب السابقة بشكل عام، من حيث التمهيد للحرب، وربما لا يمكن القياس حتى على فترة عام من حرب الاستنزاف بين إسرائيل وحزب الله منذ 8 أكتوبر 2023، بل وقد يكون من الصعب القياس على الحروب السابقة التي خاصتها إسرائيل؛ لأن كل حرب تحمل سماتها الخاصة.

وعلى نحو ما سبق الإشارة إليه، كان هناك نمط انتقائي لضرب حلقة القيادة العليا في المجلس العسكري لحزب الله، وهي أيضاً عملية تعكس مستوى متقدماً لـ”حرب الظل”؛ إذ إن أغلب القيادات الذين تم استهدافهم لم يكونوا معروفين، لا في الدائرة الأوسع لحزب الله ولا في المجال العام اللبناني، بل إن أغلبهم كان على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية عمليات استهداف السفارة والقوات الأمريكية في مرحلة الثمانينيات. الآن أصبحت الوجوه معروفة، بالإضافة إلى حالة الانكشاف التي طالت الحلقة الوسطى في عملية (البيجر، ووكي توكي).

ومن ثم كانت هناك عدة مداخل متغيرة للتمهيد للحرب أو الضغط للاستسلام، تختلف عن دخول الدبابات الإسرائيلية لخوض حرب برية على غرار ما جرى في عام 2006. وبالمنطق الحالي، ووفق النتائج الكمية، يمكن القول إن نتائج المواجهة في أسبوع واحد منذ اختراق منظومة الاتصالات وحتى اغتيال عقيل، تجاوزت خمسة أسابيع هي زمن حرب 2006.

هناك أيضاً أحد الدروس المستفادة والذي يتعلق بموازين القوة، ووفقاً لمسلسل المواجهة، لم يتم الاعتماد على السلاح الجوي فقط، بالرغم من أن كافة التوقعات كانت تتجه إلى ذلك للتمهيد لحرب برية. وتلفت الضربة الإسرائيلية لشبكة اتصالات حزب الله الداخلية، الانتباه إلى مدى أهمية القدرات اللوجستية في حسابات موازين القوة، وقبل كل ذلك معركة الاستخبارات التي تفوقت فيها إسرائيل بشكل واضح.

في المقابل، عمل حزب الله على تنمية القدرات أفقياً؛ إذ أظهر اهتماماً بتحسين القدرات الصاروخية وقدرات المُسيَّرات لاختراق منظومات الدفاع الإسرائيلية. وعلى الرغم من المتغير المتسارع لأسماء الصواريخ التي يطلقها حزب الله على إسرائيل؛ فإنها تُعد تطوراً في نفس الاتجاه؛ إذن كمحصلة لهذه النقطة، يمكن القول إن إسرائيل أدركت الثغرات في القدرات الرئيسية التي يعرفها حزب الله، ويمكنه اختراقها، ولعبت على نقاط قوتها في الاختراق وتسديد الضربات النوعية.

ولا يتعين أيضاً تجاهل أن إسرائيل باتت تخوض حروباً طويلة، زمنياً، وأنه من الخطأ الرهان على عامل الإنهاك في إطار حرب الاستنزاف أو إشكالية التعبئة العسكرية، أو التنقل ما بين الجبهات، أو حتى الخلافات ما بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. بل على العكس؛ فإنها حققت قدراً من “الاستدارة الاستراتيجية”، وهو ما لم يدركه حزب الله؛ ربما لأن الفاصل الزمني لم يكن واضحاً، وربما لأخطاء في التقديرات والقرارات، أو لوجود قيود عديدة لا يمكنه التحرر منها.

توقيت غير مثالي:

إن توقيت خطة الهجوم الإسرائيلية لا يبدو مثالياً لحزب الله؛ نظراً لأن إيران تريد أن تحصل على صفقة أمريكية؛ ومن ثم فإن حزب الله مقيد بهذه الحسابات الإيرانية. ومن دلالات ذلك، رسائل زيارة إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الإيراني، إلى بغداد مؤخراً، والتي ركزت – وفق تقارير صحفية – على رأب الصدع الداخلي ما بين الوكلاء ورئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوادني.

وما ظهر من تحركات لفصائل عراقية موالية لإيران، مثل استهدافها ميناء إيلات الإسرائيلي بمُسيَّرات مفخخة، في 25 سبتمبر الجاري، يظل في إطار المساندة الرمزية. ومن المتصور أن كل ضربة توجهها إسرائيل إلى حزب الله هي رسالة إلى طهران؛ إذ إن عمليات الاختراق لأجهزة الاتصالات تشغل إيران. وعلى العكس من ذلك؛ فإن إسرائيل متحللة أكثر من قيود الضغوط الأمريكية، ولديها ضمانات دعمها.

فرص التبريد:

بحسابات السياسة، على الأرجح، وعلى الرغم من كل ما يُقال حول دعايات الحرب؛ فإن كلا الطرفين (أي إسرائيل وحزب الله) ينطلق من خط رجعة، حتى إسرائيل التي تعتبر نفسها في موقع قوة حالياً في المواجهة، يمكنها العودة إلى خط الرجعة، على الأقل مع إنجاز 90% من التفاهمات في إطار جولات الوسيط الأمريكي، عاموس هوكستين.

وبحسابات القدرات العسكرية، لا يزال حزب الله يرهن الجبهة الشمالية في إسرائيل قيد مدار صواريخه، ولا يزال لديه مخزون هائل منها، وفق التقديرات العسكرية الإسرائيلية، مع الأخذ في الاعتبار أن لديه خط إمداد في نفس الوقت، على عكس وضع حركة حماس في غزة.

ولا يزال من المُبكر تقويض القدرات القتالية لحزب الله في هذا الصدد، حتى وإن لم يتمكن من تسجيل نقاط نوعية على خط الهجوم المتقدم في العمق الإسرائيلي. لكن هذه القدرات أيضاً أصبحت مقيدة مرحلياً، في ضوء مساعي إسرائيل لمقايضة السيطرة النارية في الجبهة الشمالية بسيطرة نارية في الجنوب اللبناني، فضلاً عن دفع اللبنانيين إلى النزوح من دائرة الهجوم على غرار الموقف في شمال إسرائيل.

لكن مرة أخرى، يظل التحدي هو التفكير خارج النمط التقليدي، وربما تتجه حسابات إسرائيل في الأساس إلى استغلال رغبة إيران في إبرام صفقة مع الولايات المتحدة؛ لإضعاف حزب الله حالياً، وفي المستقبل يمكنها الرهان على الإدارة الأمريكية في إفشال أي اتفاق مُحتمل مع طهران، وربما العكس؛ أي الضغط لجر إيران إلى مواجهة وإفشال أي صفقة مُحتملة لا تريدها إسرائيل حتى تفرغ من الحرب وتتفرغ للملف النووي.

على الجانب الآخر، قد يُراهن حزب الله على فرص أخرى للتبريد؛ إذا ما كان يريد المواصلة في نفس الاتجاه، منها تحويل الأنظار إلى الداخل اللبناني، بمحاولة حلحلة الأزمات السياسية الداخلية، مثل الفراغ الرئاسي، أو التجاوب مع المبعوث الأمريكي. وفي الأخير، تتعين الإشارة إلى أننا لا نزال في مرحلة استكشافية مهمة ما بين الطرفين (إسرائيل وحزب الله)؛ ومن ثم لا يتعين أن يكون السؤال الرئيسي فيها هل هي مرحلة حرب أم لا؟ لأنها في كل الأحوال هي حالة حرب بغض النظر عن التوصيفات.

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


تعليقات الموقع