اتجاهات مستقبلية
“الذكاء الاصطناعي والاستدامة: نحو مستقبل ذكي ومتوازن بيئيًّا”
يشهد عالم اليوم تحوّلًا نوعيًّا في العلاقة بين الاستدامة والذكاء الاصطناعي، حيث أصبح الأخير أداة مركزية لدفع جهود الشركاء الفردية والجماعية نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030. ففي وقت تشير فيه بيانات تقرير التنمية المستدامة 2025 إلى أن الالتزام العالمي بالأهداف مستمر، حيث قدمت 190 دولة من أصل 193 خططًا وطنية طوعية لتعزيز التنمية المستدامة، لا تزال هناك ثلاث دول فقط لم تشارك في عملية التقييم الطوعي، وهي هايتي وميانمار والولايات المتحدة.
وقد أشار التقرير إلى ما حققته منطقة شرق وجنوب آسيا من أسرع معدل تقدم منذ 2015، مدفوعة بتحسين مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فيما سجلت دول الإمارات والسعودية ونيبال وبيرو نموًّا ملموسًا على صعيد الأهداف الوطنية، مقارنة بنظرائها في الفترة نفسها. ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن 83% من الأهداف العالمية لا تزال بعيدة عن المسار الصحيح لتحقيقها بحلول 2030، وذلك نتيجة للعقبات الهيكلية والنزاعات والقيود المالية التي تعيق الاستثمار في التنمية المستدامة.
وعليه؛ يأتي الذكاء الاصطناعي بوصفه أداةً تمكينيةً للدول والمؤسسات، يمكن أن تسهم في سدّ هذه الفجوات، وتسريع التقدم نحو الأهداف المرجوة. فوفقًا لتقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2025 الصادر عن جامعة ستانفورد، بلغ استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المؤسسات الأمريكية 78% عام 2024، مقارنة بنسبة 55% في العام السابق، فيما وصل حجم الاستثمار الخاص في الذكاء الاصطناعي إلى 109.1 مليار دولار. إذ تعكس هذه الأرقام الاهتمام المتزايد بالذكاء الاصطناعي ليس فقط بوصفه أداةً لتحسين الإنتاجية، بل بوصفه وسيلةً لتعزيز الوصول إلى الخدمات الأساسية وزيادة كفاءة الموارد. فإذا ما تم التعامل مع ملف الاستدامة من منظور شامل يستند إلى الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يُسهم ذلك في تحسين أنظمة الطاقة النظيفة من خلال إدارة الشبكات الذكية للطاقة المتجددة، وتقليل الهدر في استهلاك الكهرباء والمياه، بما يدعم تحقيق أهداف الطاقة المستدامة والبيئة النظيفة. كما يمكن للتطبيقات الذكية في قطاع الصحة أن تسرّع التشخيص الطبي، وتحسّن التنبؤ بالأوبئة، وتدعم برامج الرعاية الصحية الأولية، بما يعزز مؤشرات الصحة الجيدة، وتقليل الوفيات بين الأطفال دون الخامسة.
بيد أنَّ عملية إدماج الذكاء الاصطناعي في مسار التنمية المستدامة تواجه تحدّيات عدة، أبرزها الحاجة إلى حوكمة فعالة تضمن استخدام التكنولوجيا بمسؤولية. إذ يشير التقرير إلى أن المعايير الموحدة لتقييم الأثر الاجتماعي والبيئي للذكاء الاصطناعي لا تزال محدودة، بينما تتنامى مخاطر عدم المساواة بين الدول الغنية والنامية في الاستفادة من هذه التقنيات. فالتركيز الكبير للاستثمارات في الاقتصادات المتقدمة يعكس فجوة واضحة في القدرة على استثمار الذكاء الاصطناعي لدعم أهداف التنمية المستدامة في الدول النامية، والتي يشير تقرير الاستدامة لعام 2025 المذكور سلفًا، إلى أنها تضم نحو نصف سكان العالم، ومعظمها يواجه قيودًا مالية هيكلية تمنع تمويل مشاريع التنمية المستدامة بشكل كافٍ.
علاوة على ذلك، تظهر تحديات بيئية مرتبطة بالذكاء الاصطناعي نفسه، حيث إن الاعتماد المكثف على مراكز البيانات والأنظمة الرقمية يرفع من استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون، وهو ما يضع مزيدًا من الضغوط على جهود مكافحة التغير المناخي، وتحقيق أهداف التنوع البيولوجي. ومن ثم يصبح الدمج بين الذكاء الاصطناعي وابتكاراته وتطبيقاته من جهة، والتنمية المستدامة من جهة أخرى، مسألةً دقيقةً تتطلب توازنًا بين الاستفادة من الفرص، وتقليل المخاطر.
تشير التقارير المذكورة إلى أن الحل الأمثل يكمن في توجيه الاستثمارات بشكل استراتيجي ومتوازن، مع دعم التعاون الدولي، وإصلاح البنية المالية العالمية، لضمان وصول رؤوس الأموال إلى الدول الناشئة التي توفر أعلى إمكانات للنمو والعوائد المستدامة. كما يؤكد التقريران على أهمية وضع أطر تنظيمية قوية للذكاء الاصطناعي، تضمن الاستخدام المسؤول والآمن للتكنولوجيا، مع تعزيز القدرات المحلية في الدول النامية للاستفادة من الابتكارات الرقمية.
في النهاية، يمثّل الذكاء الاصطناعي فرصةً غير مسبوقة أمام الجميع لتعزيز التنمية المستدامة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، لكنه يتطلب تخطيطًا دقيقًا، وإدارة متوازنة للمخاطر. وهو الجمع الرشيد بين الابتكار الرقمي، والتمويل الذكي، والحوكمة الفعالة، بما يمكّن العالم من التقدم نحو أهداف 2030 بطريقة أكثر ذكاءً وتوازنًا، مع ضمان استفادة جميع الدول والشعوب من ثمار الثورة التكنولوجية الراهنة، وبناء مستقبل مستدام وآمن للجميع.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.