اتجاهات مستقبلية
الذكاء الاصطناعي السيادي والأمن القومي
يقود الذكاء الاصطناعي العديد من الصناعات؛ لقدرته على جمع وتحليل البيانات المعقدة، وفهم الأنماط والتهديدات المحتملة. ونظرًا لأهميته المتعاظمة، أضحت شركات التكنولوجيا العملاقة تسعى إلى تطوير الذكاء الاصطناعي “السيادي”؛ لتحسين قدرتها التنافسية في مختلف الأسواق حول العالم، وتقديم حلول تكنولوجية أكثر تكيفًا مع كل بلد، إذ لاتزال مراكز البيانات تقتصر على دول محددة؛ لتخزين البيانات ومعالجتها؛ الأمر الذي يطرح تساؤلات تتعلق بالأمن القومي والتنظيم، والحاجة إلى الاعتماد على تكنولوجيا تتوافق مع السيادة.
وقد بزغ “الذكاء الاصطناعي السيادي” حديثًا، ويعتمد بشكل أساسي على “تحقيق السيادة الرقمية” عبر تخزين البيانات على البنية التحتية داخل البلد أو القارة، وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي محلية تتمتع بالاستقلالية، بعد أن تُصمم وتُدار محليًّا، وهي خطوة تتجه إليها الحكومات رغبة في تحقيق السيطرة على البيانات والبنية التحتية التقنية، بما يضمن تطبيق التشريعات القانونية للدولة، وتقليل الاعتماد على التقنيات الخارجية؛ ما يعزز الأمن القومي.
ومع المنافسة التكنولوجية العالمية، تفضل الدول تحقيق أقصى استقلالية رقمية ممكنة؛ لضمان التحكم الكامل في البيانات والبنية التحتية التقنية؛ فالبيانات هي الركائز الاستراتيجية للعصر الرقمي. ويعتمد الذكاء الاصطناعي التوليدي على البيانات لإنشاء محتوى جديد وتحليل المعلومات، وباتت حماية البيانات ملحة؛ لسهولة الوصول إليها واستغلالها من المنافسين؛ ما يعرّض الأمن القومي للخطر.
ويبقى تبني الدول الاعتمادَ على البنية التحتية الطرفَ الآخر في المعادلة؛ إذ إن الاعتماد على التكنولوجيا من مصدر خارجي قد يتسبب في تعرض الأنظمة الحيوية في الدولة للخطر، ويزيد من مخاطر الاختراق السيبراني؛ فحدوث اختراق للمصدر الأصلي يتسبب في أزمة سيبرانية لكل من يعتمد عليه. لكن بالحلول التنظيمية، وإبقاء البيانات الحساسة داخل الحدود، قد يسهم ذلك في توطين التقنيات وتطوير الأعمال محليًّا حتى الوصول إلى تحقيق الذكاء الاصطناعي السيادي، ولو بنسبة لم تصل إلى العلامة الكاملة.
ولكون الذكاء الاصطناعي محركاً للاقتصاد، وأداةً لتحقيق التقدم في مجالات شتى، يُمكن للدول بناء أنظمة مستقلة تحافظ على سيادتها الرقمية بعيدًا عن الاعتماد على مزودي التقنيات الأجانب. فالذكاء الاصطناعي السيادي أداة أساسية لحماية المعلومات الحساسة، مثل البيانات العسكرية والاستخباراتية، والحد من التدخل الخارجي، بتقليل الاعتماد على التقنيات الأجنبية، وما يتبع الاعتماد عليها من مخاطر التلاعب التي قد تؤثر في القرارات السياسية أو الاقتصادية، كما توفر الأنظمة المستقلة مرونة أكبر في معالجة الأزمات والكوارث الطبيعية والهجمات السيبرانية.
إن السيطرة على البيانات في الأنظمة المحلية تقلل من احتمالية تسرب البيانات أو استخدامها بشكل غير قانوني، وتمنح الدول القدرة على إدارة وتحليل بياناتها دون أثر لمزودي الخدمات الأجانب، مع ضمان ألا تُستخدم البيانات لتحقيق أرباح لأغراض تجارية أو سياسية. ومع تطوير القدرات المحلية بإنشاء مراكز بحثية تعمل على تطوير تقنيات جديدة تلبي الاحتياجات، فإن من المتوقع أن تزداد التنافسية، وتتمتع الدول بقدرات استثمارية في الابتكار الوطني، ما يوفر فرص عمل جديدة، ويزيد الإنتاجية، ويحفز النمو الاقتصادي، ويوجِد تنافسًا علميًّا يفيد التقدم التكنولوجي العالمي.
ويمنح التحكم بالبنية التحتية ميزة إدارة أنظمة الحوسبة، وضمان أن العمليات التقنية تجري وفقًا لمصالح الدولة؛ ولذا تظهر الحاجة إلى مراكز بيانات تُدار وتُشغل داخل الحدود. ولفعل ذلك، تصنف البيانات من الأدنى إلى الأعلى حساسية، وتوضع البيانات السيادية ذات الأهمية القصوى للأمن القومي، مثل المعلومات الاستخباراتية والعسكرية، وبيانات الطاقة والبنية التحتية الحيوية، والأمن السيبراني. فمراكز البيانات السيادية حجر الزاوية لتحقيق استقلال رقمي يحمي المصالح الوطنية، ويُمكّن الدول من تعزيز أمنها القومي؛ إذ توفر مراكز البيانات السيادية بيئة آمنة لمعالجة بيانات الذكاء الاصطناعي محليًّا.
إن الذكاء الاصطناعي السيادي خطوة استراتيجية لتحقيق استقلال تقني وابتكار محلي، مثلما تحاول دول أوروبية والهند والصين ودول الخليج، وفي المقدمة دولة الإمارات، تطوير مراكز بياناتها لتعزيز السيادة الرقمية، وضمان حماية البيانات؛ لبناء مستقبل تكنولوجي أكثر أمانًا واستقلالية، وصنع منتجات وخدمات للذكاء الاصطناعي تلبي الحاجات الوطنية. لكن تطوير هذه التكنولوجيا يتطلب إمكانيات تقنية ومالية وبشرية هائلة، واستثمارات مالية ضخمة في البحث والابتكار، وتطوير البنية التحتية، والشراكة الدولية بضوابط لا تجور على السيادة الرقمية، وتبنّي استراتيجيات مدروسة تتوافق مع المعايير الأخلاقية والإنسانية؛ لتعزيز السيادة التكنولوجية، وضمان مستقبل مزدهر وآمن.
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.