اتجاهات مستقبلية
الانتشار النووي بين الردع وتهديدات السلم الدولي
يتعاظم في السنوات الأخيرة مع كل صراع دولي خطر التهديد بالسلاح النووي، وسط رفع القوى الكبرى وتيرة تحديث الســلاح النــووي، والصواريخ الباليستية النووية، لصوغ معادلة الردع، في حين لا توجد آلية دولية نافذة تخفف من التوتر والصراع بين الدول النووية، أو إحدى الدول النووية ضد طرف غير نووي، كالتهديد باستخدام الأسلحة النووية تجاه مدنيين أو دول غير نووية، وبالرغم من محاولات الأمم المتحدة لنزع السلاح النووي في العالم، تنذر التطورات في السنوات الماضية بارتفاع حدة السباق النووي الذي ينطوي على تهديد واضح للأمن والسلم الدوليين.
ولا تزال عقيدة الردع النووي قائمة كعنصر في السياسات الأمنية للدول التي تحوز السلاح النووي، منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يلوح أي تغيير في الأفق، إذ توظف الدول النووية هذا العنصر سياسيًّا كاستراتيجية للردع وحرمان الخصوم من الوصول إلى هذه القدرات، من دون اعتبار إلى ما قد يؤديه الانتشار النووي من كوارث إنسانية وبيئية حتى في الدول التي لا تنخرط في صراعات الدول النووية، وبالرغم من المبادرات الدولية للتخلص من الترسانة النووية، فإنها لم تخرج من دائرة النوايا؛ ولاسيما أن بعض الدول لم توقع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، ولم تتعهد بأي التزامات نووية.
وعلى عكس ما تعتقده الدول النووية، لم يمنع السلاح النووي الحرب، ولم يضمن السلام والأمن الدائمين كليًّا، ورأينا الدول النووية تتصارع، والدول غير النووية لا تخشى الدول النووية في الحروب، أو على الأقل تتصارع معها، فالسلاح النووي قوة يصعب استخدامها حتى من الدول النووية، ومفهوم الردع يتراجع إلى حد ما عند حدوث المواجهة، لأن الردع يعني عمليًّا غياب الحرب لتوافر القدرات التي تُرغم الخصم على التراجع عن سلوك عسكري.
ويمكن اعتبار نهاية الحرب العالمية الثانية نقطة دخول العالم إلى سباق التسلح النووي، وحاليًا تمتلك 9 بلدان على الأقل هذا السلاح الفتاك، وقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية تهديدات القوة النووية إلى أقصاها، وباتت سمة مشتركة لصراعات لاحقة في غزة وبين إسرائيل وإيران والهند وباكستان، وأضحت دول نووية، مثل روسيا، تطرح استخدام السلاح النووي ضمن عقيدتها العسكرية حال الاعتداء عليها أو استخدام الخصم للسلاح النووي، ومهاجمة موقع أسلحة نووية روسي، أو التعرّض لعدوان يُهدد وجود الدولة.
ومع المتغيرات السياسية والأمنية الدولية، وإدراك العالم أكثر لمخاطر تهديدات الأسلحة النووية، يحتاج المجتمع الدولي إلى تحركات تحد من الانتشار النووي، وعدم الخروج عن الاتفاقيات الدولية، واستخدام الدبلوماسية كوسيلة أساسية في هذا السياق، مع إعطاء الأمم المتحدة ووكالاتها دورًا أكبر في الرقابة على البرامج النووية حول العالم، إذ إن التهديد النووي يبدو أكثر وضوحًا من ذي قبل.
إن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية تستند إلى أن الحرب النووية ستخلف الدمار الشامل للبشرية، لكن قدرة الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، على وقف إنتاج الأسلحة النووية، وتصفية المخزونات القائمة، في إطار رقابة دولية فعالة، تبدو محل شك؛ وخاصة أن بعض الدول النووية خارج المعاهدة، ولا توجد أي رقابة عليها، وقد تشكك بعض الدول غير النووية في نهج الوكالة والأمم المتحدة؛ ولاسيما أن القوى الكبرى لم تفكك الترسانة النووية أو حتى تضع خططًا واضحة لذلك، والالتزامات على الدول غير النووية ربما أكثر صرامة من الدول النووية.
وفي عالمنا اليوم تمتلك 9 دول على الأقل أسلحة نووية: الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة، وهي خمس دول من الدول الموقعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، لكن الهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية لم توقع أو انسحبت من المعاهدة، وهو ما يعني أن قدرة المجتمع الدولي على نزع أو ضبط استخدام السلاح النووي بشكل كامل غير ممكن في الوقت الحاضر، وهو في الحقيقة يرتبط بقرار الدول الكبرى، والاتجاه نحو مبادرات تقلل أخطار الأسلحة النووية في السنوات أو العقود القادمة.
لكن الصورة ليست قاتمة تمامًا، إذ إن الاستخدام النووي السلمي يمكن أن يشمل مجالات عدة؛ منها توليد الكهرباء والطب والزراعة والغذاء والطب واستكشاف الفضاء وتحلية المياه، أما على الجانب العسكري، فإن المجتمع الدولي يحتاج إلى ضمانات دولية قادرة على التخلي عن الرؤوس النووية، والتزام دولي قانونًا بعدم شن هجمات نووية ضد الدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وضمان التخلي عن الأسلحة النووية في الحروب والنزاعات، والعمل على الوصول إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، وهو مسار دولي صعب لكنه ممكن إذا توافرت الإرادة من الأطراف المعنية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.