طلال أبوغزاله

مقالات
محمد السمّاك

طلال أبوغزاله

 

كثير من الناس موجودون أو متواجدون، ولكنهم غائبون عن عقول الناس، بعيدون عن قلوبهم.. وحتى عن أسماعهم. طلال أبوغزالة ملء السمع والبصر في العالم العربي وفي العالم. فهو يعيش في قلوب أجيال تخرّجت من جامعته ومن معاهده، ومن مؤسساته التي تنتشر حول العالم، حيث تعلمت وعملت وحققت نجاحات تغمر حياته بالسعادة والارتياح.
ما كان لطلال أبو غزالة أن يكون هكذا لو لم يتمرّد على الماضي الذي حوّله من مواطن إلى مهاجر. فجعل طلال من الهجرة القسرية من وطنه فلسطين بكل ما تمثله تلك الهجرة من مآسٍ ومعاناة، سلّماً لبلوغ أسمى ما يطمح إليه الإنسان من نجاحات وإنجازات.
لقد تمرّد على الماضي المؤلم ليعيش واقعاً من صنعه.. وليبني مستقبلاً يقوم على أساس تراكم نجاحات أجيال من طلابه ومن العاملين معه.
ويبدو لي طلال مثل سمكة السالمون، يسبح عكس التيار.. يجتاز المسافات الطويلة. ويقفز فوق الحواجز. ويلتف حول شباك الصيادين، ويكافح للإفلات من بين براثن الدببة البشرية التي تحاول أن تتصيّده على غفلة منه.. حتى يصل إلى المكان الآمن الذي يضع فيه خبراته وإنجازاته في خدمة الأجيال المقبلة.
في كل هذه النجاحات التي حققها طلال أبو غزالة، وفي كل هذه الإنجازات المميزة التي تكلّل جبينه على مدى سنوات طويلة كان العمل خبزه اليومي (كما قال في كلمته التي ألقاها أثناء منحه الدكتوراه الفخرية من الجامعة اللبنانية – الأميركية في بيروت، محرّضاً المتخرّجين على الاقتداء بتجربته التي لخّصها بكلمة واحدة وهي العمل).
صحيح أن قوانين الحياة مثل خيوط العنكبوت. ولكن هذه الخيوط كما أثبتت تجربة طلال، أو كما أثبت طلال في خلال تجربته، لا تُعطل عمل سوى الضعيف ولا تُفشل سوى العاجز. وهذه الخيوط تنقطع نتفاً صغيرة بقوة أصحاب الإرادة الذين يحددون أهدافهم الطموحة ويعرفون كيف يصلون إليها.
فقد أثبت أنه يستطيع أن ينجح من خلال الدراسة والتصميم والتخطيط والبرمجة، ولكنه استطاع أن يحقق نجاحات أكثر من خلال حبّه للناس وحرصه على الوفاء للمجتمع الذي ينتمي إليه.
ولكن هذا «اللاجئ الفلسطيني» الذي طبقت شهرته آفاق العالم، لم يخرج في عالميته من ثوبه الفلسطيني؛ حدثني مرة قال إن أعلى مستويات المعرفة الرقمية هي في الطلاب الذين يعيشون في المخيمات الفلسطينية في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة وفي مخيمات اللاجئين.
دمعت عينا طلال وهو يروي تلك الحادثة المعبّرة، ربما تذكّر طفولته لاجئاً مثلهم، وربما ذكرته أنه ليس نسيج وحده بين أبناء الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، بل إن ثمة الكثيرين ممن يجاهدون بحثاً عن شمعة تضيء طريقهم إلى المستقبل الأفضل.
إن مَن يعرف نفسية طلال وشخصيته يعرف جيداً أن تجربته قادته إلى أن يدرك أن الأمل بغد أفضل ليس مجرد أمنية. بل هو صناعة، وأن لهذه الصناعة فناً أشبه ما يكون بسحب خيط من الحرير متشابك في شجرة «صبير» حادة الأشواك، وهو ما نجح طلال في إنجازه بمهارة واتقان. ولا أدري إذا كانت شهية طلال الجيدة لثمرة الصبير تعكس بصورة غير مباشرة قدرته على التغلب على الأشواك الحادة لهذه الثمرة. وعلى إخراج خيط الحرير منها سالماً.
فصناعة الأمل تتطلب الكثير من الصبر والكثير من المثابرة والتصميم لرسم خط فاصل بين المعاناة والأمل، بين الأمس المظلم والظالم، والغد المضيء والوهاج.
لم تكن هجرة طلال مع عائلته إلى لبنان هجرة مريحة. وفي الأساس لا توجد هجرة مريحة. إن الهجرة من بلد آمن وقع ضحية أطماع ومؤامرات وخيانات إلى بلد أشبه ما يكون «بالبوسطة» نصف شعبه يتصارع للإمساك بدفة القيادة (؟) والنصف الثاني يتنافس على جباية أجرة النقل (؟)، وبعد سنوات طويلة أصبح طلال مواطناً لبنانياً بالروح والمحبة والوفاء وليس بالجنسية ولكنه لم يتلبنن لا بمعنى المشاركة في قيادة البوسطة، ولا بمعنى المزاحمة في جمع الأجرة من الركاب. كانت هجرته إلى لبنان مشابهة لهجرة اللبنانيين من لبنان: التخلي عن المزاحمة في قيادة البوسطة، والتعفف عن المنافسة في جمع الأجرة، والتفرّغ للبحث عن فرص النجاح في الخارج وتوظيف هذا النجاح في الداخل اللبناني.
لمع اسم طلال في العديد من الدول العربية وأصبح عضواً في مجلس الأعيان الأردني. ولمع اسمه في العديد من المحافل الدولية وبخاصة في فرنسا والصين التي حصل من كل منهما على أوسمة وجوائز تقديرية. وتبوّأ موقعاً قيادياً في مؤسسات الأمم المتحدة حيث أصبح رئيس التحالف الدولي للتكنولوجيا والمعلومات والاتصالات والتنمية وسفيراً خاصاً للسياحة فيها، إلى جانب مناصب ومهمات عديدة أخرى.
قاد طلال أبو غزالة ثورة على وسائل التعليم التقليدية في المجتمعات العربية. فهو يرى أن اللوح الأسود (أو الأخضر) والطبشور أصبح من الماضي، وأن للتعليم في العصر الحالي أدواته الإلكترونية وله تقنياته الخاصة. لقد انتهى عنده التعليم بالاعتماد على الحفظ والذاكرة، وأصبح التعليم يعتمد على الإبداع في المعارف، بحيث أن ومضة واحدة من جهاز تعليم إلكتروني هي أصدق أنباء من عدة كتب.
وفي هذه المعركة التغييرية في أساليب التربية ومنهاجها لتكوين أجيال الغد، فإن طلال أبو غزالة لا يهادن ولا يجامل. والذين يراهنون على توقفه أو تراجعه أو انكفائه أشبه ما يكونون كمَن ينفخ على الشمس لإطفائها. فعنده أن فكرة إبداعية جديدة هي أقوى من كل جيوش العالم.
يقول المعلم أرسطو: «إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يعيش في المجتمع، أو الذي لا يحتاج إلى أحد أو لا يهتم بأحد، لأنه مكتفٍ بذاته، يجب أن يكون إما حيواناً أو إلهاً».
لم يكن طلال لا هذا ولا ذاك. فهو يؤمن بمجتمعه ويؤمن بقدرة هذا المجتمع على النهوض وعلى مواكبة التقدم العلمي والمساهمة في إنجازاته ويؤمن بقدرته على أن يضيء شمعات عديدة في الطريق إلى هذا الهدف النبيل. ولذلك فهو يحرص على أن يبقى وفياً لمجتمعه.. وفاء إنسان تحوّل من طفل مهجّر يبحث مع عائلته عن ملجأ ومأوى.. وأصبح رمزاً حضارياً يعتز به شعبه وأمته. فأن تكون لاجئاً فلسطينياً تعيش في مخيمات محرومة، فذلك يعني أنك خسرت ورقة يانصيب الحياة. ولكن أن تكون طلال أبو غزالة متمرداً على هذا الواقع، فهذا يعني أنك ربحت الجائزة الكبرى.


تعليقات الموقع