خطة إغاثة “كوفيد” وديون أميركا الهائلة
وقع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن على مشروع قانون الإغاثة من وباء (كورونا) بقيمة بلغت 1.9 تريليون دولار، يوم الخميس الماضي، ليصل إجمالي الإنفاق الفيدرالي لمواجهة الوباء خلال العام الماضي قرابة 6 تريليونات دولار. كما يخطط الرئيس بايدن أيضاً إلى زيادة الإنفاق على البنية التحتية بنحو 4 تريليونات دولار على مدار السنوات العشر المقبلة في مشروعات الطرق، والجسور، والأنفاق، وشبكات الطاقة، والصناعات الاستراتيجية، وغير ذلك من الاحتياجات الوطنية.
إنه كم هائل من المال ذلك الذي أثار غيرة منتقدي سياسة الرئيس جوزيف بايدن؛ إذ يعتريهم القلق البالغ من أن تلك الأموال الضخمة ترقى إلى مستوى التجاوز الخطير في الإنفاق، مع إثقال كاهل الحكومة بأعباء الديون الهائلة التي يصعب السيطرة عليها، تلك التي تسفر في نهاية المطاف عن بلوغ حد خطير من التضخم الاقتصادي. وهم يدفعون بأن خطة الإغاثة تفوق كل ما أنفقته الولايات المتحدة على خوض الحرب العالمية الثانية!.
إنها كذلك بكل تأكيد. ففي الدولار المنضبط وفق التضخم، أنفقت الحكومة الأميركية نحو 4.1 تريليون دولار في الحرب العالمية الثانية. كما أنها أنفقت أكثر من 300 مليار دولار على كل من الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الكورية، وأنفقت حوالي 738 مليار دولار على حرب فيتنام وحدها. كما تبلغ فاتورة الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وأماكن أخرى، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية نحو 2.3 تريليون دولار، وما يزال الإنفاق مستمراً. وإجمالاً للقول، أنفقت الحكومة الأميركية نحو 7.9 تريليون دولار على الحروب منذ الحرب العالمية الأولى،
وما زلنا في حالة الحرب مرة أخرى، تماماً كما أشار الرئيس ترمب وآخرون بصفة روتينية إلى المعركة التي تخوضها البلاد منذ أكثر من عام ضد وباء «كورونا المستجد». ومن ثم، فإن المقارنة المنعقدة بين الوباء وبين الحرب العالمية الثانية ليست غريبة على الإطلاق. فإن خوض الحروب يستلزم الاستعداد والتأهب التام، بما في ذلك استعداد الحكومة الفيدرالية على استعراض قدراتها المالية الكبيرة ضمن جهود الاستجابة لمجابهة الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثه الوباء الراهن.
ومن الجدير بالإشارة في السياق نفسه نذكر أن الإنفاق الحكومي الهائل على الحرب العالمية الثانية كان سبباً في مغادرة الولايات المتحدة لحقبة الكساد الاقتصادي الكبير في نهاية المطاف، ولم يكن الفضل يرجع في ذلك إلى مبادرات الخطة الجديدة الحسنة النية، والضرورية، ولكنها كانت ذات صفة تجريبية، وغير محددة الأهداف. لقد شكّل الإنفاق الفيدرالي على الدفاع نسبة 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بحلول عام 1945. وبالمقارنة، فإن مبلغ 6 تريليونات دولار الذي أقره الكونغرس لمكافحة وباء «كورونا المستجد» يشكل أقل من نسبة 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الراهن في البلاد.
وبالإضافة إلى الانتصار في الحرب، ساعد الإنفاق الفيدرالي الكبير على جلب الأفراد الجدد إلى القوى العاملة مع تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص تلك التي تمخض عنها تحسين الصناعات التحويلية والابتكارات التكنولوجية. ورغم مخاوف بعض المحللين من أن النفقات المماثلة للحرب العالمية الثانية ربما تؤدي إلى انتكاسة في الاقتصاد الأميركي بعد زوال الأزمة، فإنهم توقعوا حدوث واحدة من أكبر التوسعات الاقتصادية في تاريخ البلاد تلك التي تساعد في إرساء الأسس للنمو والازدهار غير المشهود سابقاً في الطبقة الوسطى الأميركية.
أحد أبرز الانتقادات التي ظهرت ضد مشروع قانون الإدارة الأميركية الأخير أنه سوف يؤدي إلى ارتفاع كبير في التضخم، غير أن هذه الحجة تستند بالأساس إلى الافتراض أكثر من البيانات الحقيقية. فليس هناك رابط واضح بين الإنفاق الحكومي وارتفاع التضخم. ولقد ضاعف بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من حجم الميزانية العمومية في البلاد بأكثر من 3 أضعاف في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ومع ذلك، ظل التضخم أدنى من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 في المائة في تلك الأثناء. وكان البنك المركزي الياباني يحاول التحفيز وزيادة الإنفاق من أجل زيادة التضخم على مدار ثلاثة عقود كاملة، في جهود لم تُكلل بالنجاح. وحقيقة الأمر أنه ما من أحد يعرف على وجه اليقين ما الذي يسبب ارتفاع التضخم.
ويتأثر كثير من دعاة التضخم بذكريات الركود التضخمي الكبير في سبعينات القرن الماضي، والذي اتسم بمزيج غير معهود من التضخم المرتفع والبطالة. وكان التضخم قد بلغ نسبة تفوق الـ 13 في المائة بحلول عام 1980، متجاوزاً بذلك أي مستوى مسجل قبله أو بعده في العصر الحديث. والأهم من ذلك، كانت تلك الأيام التي تسبق التدخلات الكبيرة والجريئة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي والعجز الفيدرالي المعروف وقتذاك. ومع اتساع المعروض من الأموال في السبعينات، لم يكن هذا التوسع المالي أكبر مما شهدناه في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، ومن ثم، لا يمكن بصورة واضحة الربط بين التضخم المرتفع في عقد السبعينات مع الإنفاق الفيدرالي الكبير. وكانت المسؤولية واقعة على عاتق أزمات الطاقة التي أشعلها الحظر النفطي في تلك الأوقات.
ومع أن كمية الأموال التي ضُخت في العام الماضي فاقت ما جرى إنفاقه في أي وقت آخر إبان عقد السبعينات أو منذ الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فإنه لا يوجد ما يشير إلى أن مبلغ 9 تريليونات دولار الذي أقره الكونغرس وبنك الاحتياطي الفيدرالي قد أثار أو حرك الارتفاع المثير للمخاوف في التضخم الاقتصادي. ولقد ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي بأقل من المتوقع خلال الشهر الماضي بنسبة بلغت 1.3 نقطة مئوية خلال العام الماضي. وسجل مؤشر أسعار المستهلكين العام ارتفاعاً بنسبة 1.7 نقطة مئوية فقط خلال الفترة نفسها. وإن أشار ذلك إلى أي شيء، فإن التضخم يواصل الانخفاض بصورة كبيرة. ورغم أن توقعات التضخم على المدى الطويل قد ارتفعت خلال العام الماضي، فإنها ما تزال أدنى قليلاً من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ نقطتين مئويتين كاملتين.
وكما سبق أن قلنا من قبل، هناك أسباب تسوّغ توجيه الانتقادات إلى جهود الإغاثة الفيدرالية. كان بإمكان الحكومة الأميركية بذل الإنفاق الكبير لمساعدة العاملين الأميركيين مع بناء شبكة أفضل للأمان الاجتماعي تحت مستوى المستهلكين الذين تولد إنفاقاتهم التقليدية نحو 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد. وكان ينبغي توجيه المزيد من التمويل الحكومي مباشرة إلى العمال بدلاً من استهداف الشركات في المقام الأول. ومن بين أوجه القصور البارزة في خطة إغاثة (كوفيد – 19) حتى الآن أن الأفراد لن يستفيدوا إلا بخُمس الأموال المخصصة للمساعدات. وكان من الممكن أن تقطع تلك الأموال الهائلة شوطاً طويلاً على مسار الاستثمار الذي تشتد الحاجة إليه في مشاريع البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية العامة.”الشرق الأوسط”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.