عيون الاسكوتلنديين على الاتحاد البريطاني
تابعت باهتمام موسم الانتخابات المحلية البريطانية، على مستوى المجالس البلدية، والعُمد، ومفوضي الشرطة، والبرلمانات المحلية في كل من إقليمي ويلز واسكوتلندا، مضافة إليها انتخابات ثانوية في مدينة هارتلبوول لشغر مقعد برلماني. الأمر يشبه «مولداً» ديمقراطياً شغل وسائل الإعلام البريطانية قبله وأثناءه، وبعد انفضاضه.
الديمقراطية كانت الفائز الأول، ووطدت مصداقيتها وضرورتها. وتقاسم المرتبة الثانية كل من حزب المحافظين وحزب اسكوتلندا القومي. الأول عزز من وجوده البرلماني، بعد أكثر من عام ونصف العام من وجوده في الحكم، بانتزاع مقعد برلماني يُعد تاريخياً عُمالياً، وجزءاً مما يطلق عليه «الجدار الأحمر». كما زاد من إحكام سيطرته على العديد من المجالس البلدية، في حين أن حزب اسكوتلندا القومي أكد هيمنته على اسكوتلندا، وصار يشكل تهديداً واقعياً للاتحاد البريطاني. العزاء الوحيد لحزب العمال أنه حافظ على وجوده كقوة سياسية حاكمة في إقليم إمارة ويلز. كما تمكن من الاحتفاظ بشغل منصب العمودية في مدينتين كبيرتين، هما لندن ومانشستر. ولا عزاء لحزب الأحرار الديمقراطيين سوى الصبر.
ملاحظات عديدة يمكن استخلاصها من الانتخابات الأخيرة:
أولاها، أن فوز المحافظين بمقعد دائرة هارتلبوول العمالية منذ 1974 ليس مفاجئاً تماماً؛ أولاً، لأن استبيانات الرأي العام، قبل الانتخابات، كلها أكدت احتمال سقوطها بنسبة كبيرة في أيادي المحافظين. وثانياً، أن الفوز تأخر زمنياً، لأن الدائرة كان من المفترض سقوطها في انتخابات شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019، لولا اختيار حزب «بريكست» تقديم مترشح عن الحزب، مما أدى إلى انقسام أصوات الناخبين بين مرشحهم ومرشح حزب المحافظين، الأمر الذي أتاح لمرشح حزب العمال الفوز بالدائرة.
وثانيتها، أن حزب العمال ارتكب خطأ باختياره مترشحاً لمقعد برلماني معروف بموقفه المناصر لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في دائرة انتخابية صوتت بنسبة 70 في المائة لصالح «بريكست» عام 2016. العماليون اعتقدوا أن قضية «بريكست» وتداعياتها قد أضحت ماضياً، وجاءت الانتخابات الأخيرة لتثبت أنها ما زالت فاعلة ومؤثرة. وعمقوا خطأهم من خلال إصرار إدارة الحملة الانتخابية في الحزب على تقديم مترشح معاد لـ”بريكست”.
ثالثاً، أن نتائج الانتخابات المحلية بتنوعاتها كانت، بشكل عام، انعكاساً لنجاح الحملة الوقائية من الوباء الفيروسي، وحملة التطعيم في إنجلترا وويلز واسكوتلندا. وهذا يفسر فوز الأحزاب الحاكمة في تلك الأقاليم الثلاثة. فاز المحافظون في إنجلترا، والعماليون في إمارة ويلز، والقوميون الاسكوتلنديون في اسكوتلندا.
رابعاً، أبانت الانتخابات بما لا يدعو مجالاً لشك، أن حزب العمال لم يتمكن بعد من التخلص من إرث زعيمه اليساري السابق جيريمي كوربين؛ ذلك الإرث فلق الحزب شطرين.. شطراً يدعو إلى ضرورة نبذ كل سياسات كوربين السابقة، والتأكيد على تبني سياسات جديدة تضمن جر الحزب من موقعه اليساري الراديكالي، وإعادته إلى اعتدال الوسط، وشطراً يقف على الضفة المقابلة مُصراً على مواصلة الاستمرار في نهج سياسات يسارية راديكالية. وفي حدة الصراع بين الطرفين، أصيبت القيادة الجديدة بما يشبه الشلل، ولم تستطع حسم الصراع بإعلان وقوفها إلى جانب منه ضد آخر. هذا التردد في الحسم انعكس سلبياً على نوعية الرسالة التي يسلح بها الحزب كوادره، بهدف إقناع الناخبين ببرنامجه وكسب أصواتهم. وعلى سبيل المثال، اتسمت رسالة حزب المحافظين للناخبين بوضوح جسدته خريطة طريق لأهداف مرحلة ما بعد “بريكست”.
وخامساً، مثل حزب العمال، دخل حزب الأحرار الديمقراطيين الحملة الانتخابية بقيادة باهتة، وبلا بوصلة أو هدف محدد. ومثل حزب العمال، ما زال الحزب لم يفُق بعد من صدمة هزيمة انتخابات عام 2015، ولم يتمكن بعد من إعادة ثقة الناخبين به، بعد اختيار قيادته السابقة الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب المحافظين عام 2010، وعدم الالتزام بما قدموه من وعود.
سادساً، أن الفوز الانتخابي الذي حققه المحافظون، بقيادة بوريس جونسون، رغم أهميته سياسياً ودلالاته تاريخياً، إلا أنه كاد يكون بلا مذاق أو طعم، بعد فوز الحزب القومي الاسكوتلندي بثقة الناخبين الاسكوتلنديين للمرة الرابعة على التوالي، وأضحى، من دون شك، تهديداً قائماً لوحدة اتحاد تاريخي دام لأزيد من ثلاثة قرون في بريطانيا. المطلب الاستقلالي، حالياً، سيكون ميداناً لمعركة طيلة السنوات الخمس المقبلة. البرلمان الاسكوتلندي الجديد سيكون في قبضة الانفصاليين، من الحزب القومي الاسكوتلندي وحزب الخضر الاسكوتلندي؛ إذ من مجموع 129 مقعداً، أصبح الانفصاليون يسيطرون على عدد 72 مقعداً (64 للقوميين + 8 للخضر)، وهذا بدوره سيفضي إلى مواجهة سياسية ساخنة حتماً، بين الحكومة المركزية في لندن ونظيرتها المحلية في أدنبره، حول مطلب إجراء استفتاء ثان في اسكوتلندا بموعد أقصاه نهاية عام 2023. الوزير الأول في حكومة اسكوتلندا، السيدة نيكول ستورجن تهدد برفع الأمر للقضاء في حالة مواصلة حكومة لندن إصرارها على رفض عقده. وباختصار، تجاهل المطلب الاستقلالي الاسكوتلندي سوف يسبب للحكومة البريطانية بقيادة جونسون صداعاً دائماً، وقد يحيد بها عن طريقها المرسوم. وفي وجهة نظري، سوف تضطر لندن آخر الأمر للامتثال للأمر الواقع.”الشرق الأوسط”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.