بعض المجرات الأبعد التي اكتشفها بالفعل «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» تحوي أدلةً على وجود نجوم المجموعة الثالثة

بعد نجاح «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» في اكتشاف مجراتٍ مبكرة.. فلكيون يحاولون فك طلاسم هذا الكشف

الرئيسية مقالات
جوناثان أوكالاجان:صحفي علمي

 

بعد نجاح «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» في اكتشاف مجراتٍ مبكرة.. فلكيون يحاولون فك طلاسم هذا الكشف

 

 

 

لا تتوقف الجهود التي يبذلها الفلكيون من أجل تحقيق أحد أهدافهم المهمة، وهو فهم النجوم والمجرات الأولى التي أضاءت الكون، ورغم ذلك لا يزال الغموض هو سيد الموقف، لكن كل كشفٍ يحققونه من آنٍ إلى آخر يزيدهم قربًا من هدفهم.

ذاك هو الاستنتاج شبه الحتمي الذي استُخلص من عمليات الرصد الأولية التي أُجريت باستخدام «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»James Webb Space Telescope  “JWST”، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التلسكوب تبلغ تكلفته 10 مليارات دولار أمريكي، وقد بدأ عملياته العلمية في شهر يوليو، والتلسكوب مُصممٌ ليلمح الوهج الخافت للأشعة تحت الحمراء المنبعث من أقدم الأجرام المضيئة في الكون، لذا يصل بنطاق رؤيته إلى فترة المئة مليون سنة الأولى بعد الانفجار العظيم، ما يُتيح له الحصول على بياناتٍ أكبر كمًّا وأكثر دقةً عن مجراتٍ حديثة النشأة مقارنةً بالبيانات التي يحصل عليها أي مرصد آخر حتى وقتنا هذا، ولكن تبيَّن أنَّ مجموعة «صور المجرات حديثة النشأة» التي التقطها التلسكوب فاقت بكثيرٍ توقعات معظم الباحثين، ببساطة، يُمكن القول إنَّ المجرات المبكرة المحتملة تظهر في الصور بأعداد تتجاوز التنبؤات؛ ذلك لأنه عُثِر على العشرات منها إلى الآن، لكن تفسير هذه الوفرة قد يستدعي إدخال تعديلاتٍ جوهرية على النماذج الكونية السائدة، أو بعبارةٍ أخرى، إجراء تغييراتٍ قد تتضمن تَكوُّن المجرات الأولى في زمن أقرب، أو سطوع نجومها بدرجةٍ أشد، بل لعل طبيعة المادة المظلمة أو الطاقة المظلمة أشد تعقيدًا وغموضًا مما كان يُعتقَد في السابق.

ومن بين أكثر المجرات المبكرة المحتملة التي رصدها «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» إثارةً للاهتمام، تمكَّنت مجرتان من اجتياز مرحلة التدقيق الإضافي بنجاحٍ، وهو ما من شأنه أن يُعزز شكوك العلماء في أن معرفتنا بالتاريخ الكوني يعتريها الكثير من القصور، ويعود تاريخ المجرتين في وقت اكتشافهما إلى ما بعد الانفجار العظيم بفترةٍ تتراوح بين 350 مليون سنة و450 مليون سنة، وبذلك فهما معدودتان أقدم من جميع المجرات الأخرى المعروفة من قبل، ويُشار إلى أن الفضل في اكتشاف المجرتين يرجع إلى فريقين مختلفين، أحدهما بقيادة روهان نايدو، الذي يعمل حاليًّا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والآخر بقيادة ماركو كاستيلانو من مرصد روما الفلكي في إيطاليا، وفي بداية الأمر، نُشرت الورقتان البحثيتان المتعلقتان بهذا الكشف على خادم المسودات الأولية «أركايف دوت أورج» arXiv.org، لكنهما الآن تخطَّتا العقبة الأساسية المتمثلة في ضرورة خضوعهما لمراجعة الأقران، إذ نُشرت كلتاهما في دورية «أستروفيزيكال جورنال ليترز» Astrophysical Journal Letters في أواخر شهري نوفمبر وأكتوبر الماضيين، على الترتيب، وهذا أكثر من مجرد حدث رسمي مهم؛ لأن بعض المشكلات المبكرة المتعلقة بجودة المعايرة فيما يتعلق بأدوات «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» كانت قد أججت المخاوف لدى الفلكيين من أن تكون هذه النتائج قد استندت إلى حساباتٍ خطأ للمسافة الحقيقية التي تفصل بين الأرض وهاتين المجرتين، ما يجعلهما مجرد مجرتين حديثتين خادعتين لا تنتميان إلى زُمرة مجرات بدايات الكون إلا بالمظهر فقط، ولكن بعد خضوع المجرتين لمراجعةٍ دقيقةٍ من الأقران، يقول كاستيلانو: “يمكننا القول بقدرٍ كبير من الثقة إن المعايرة لا تمثل مشكلةً فيما يتعلق بهاتين المجرتين، إنهما مرشحتان بقوة، وقد استطعنا أخيرًا حل مشكلات المعايرة”، لكن الأمر سيتطلب إجراء عمليات رصد إضافية للتأكد تمامًا من مسافتيهما اللتين بلغتا مستوىً قياسيًّا.

منذ ذلك الحين، عثر الفلكيون على العديد من المجرات المبكرة المحتملة الأخرى، التي يبدو أن عُمر بعضها يعود إلى ما بعد الانفجار العظيم بنحو 200 مليون سنة، يُشار إلى أنه قبل إطلاق «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» لم يكن أحدٌ يعرف ما إذا كان من الوارد أصلًا أن تكون بعض المجرات قد تكوَّنت في وقتٍ مبكر جدًّا كهذا من تاريخ الكون الذي يبلغ 13.8 مليار سنة؛ إذ اعتُقد أن المادة حينذاك كانت لا تزال تتحد بهدوء مكوِّنةً التكتلات المرتبطة بفعل الجاذبية واللازمة لنشوء مجموعات كبيرة من النجوم، وعن ذلك قال جارث إلينجورث -الفلكي بجامعة كاليفورنيا في مدينة سانتا كروز- خلال مؤتمرٍ صحفي عقدته وكالة ناسا لإعلان تثبُّت مراجعة الأقران من صحة الاستنتاجات التي تفيد بأن المجرتين الأوليين مرشحتان: “من هنا نتساءل: هل نفهم بحقٍّ الأطوار المبكرة لتكوُّن هذه المجرات؟ هذا يثير لدى العلماء النظريين الكثير من التساؤلات”.

ويتمحور أحد أبرز تلك التساؤلات حول الكيفية التي وجَّهت بها المادة المظلمة نشوء المجرات بالتحديد؛ فعلى مدار مئات آلاف السنين القليلة الأولى التي أعقبت الانفجار العظيم، كان الكون ساخنًا بشدة إلى حد أن الجاذبية عجزت عن تجميع المادة الطبيعية معًا لتكوين كتلٍ مجرية أولية كبيرة، لكن هذه “لم تكن مشكلةً للمادة المظلمة، إذ لا تتفاعل عبر قوى كهرومغناطيسية”، على حد قول خورخي بِناروبيا، اختصاصي علم الكونيات بجامعة إدنبرة في اسكتلندا، بل إن الجاذبية وحدها هي التي تتحكم في هذه المادة غير المرئية، وهو ما يُستدل منه على أنه في غضون لحظات فقط من حدوث الانفجار العظيم، حين كانت الفوضى الأولية هي المهيمنة على كل شيء آخر، بدأت الجاذبية على الفور في تجميع المادة المظلمة في كتلٍ ضخمة تُعرَف باسم الهالات، ويُعتقد أن هالات المادة المظلمة هذه كانت بمنزلة مصارف جذبوية للمادة العادية، وبذلك وضعت بذرة النشوء اللاحق للمجرات في الكون المبكر، والحركات الدالة التي تتحركها النجوم الخاضعة لتوجيه هذه الهالات تكشف عن صمودها حتى يومنا هذا، ومن ثم فإن هذه الهالات لا تزال تحيط بالمجرات على غرار مجرتنا، وهي بمنزلة نحَّاتين مهيبين -وغير مرئيين في الوقت ذاته- للكون الحديث.

ونجاح «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» في اكتشاف المجرات المبكرة بسرعة ربما يضع فهمنا للكيفية التي تتكون بها هذه الهالات على المحك، وقد يُوحي بأنها بلغت كتلةً هائلةً في توقيتٍ أكثر بكورًا مما هو متوقع، وأحد تفسيرات ذلك قد يتضمن طبيعة المادة المظلمة نفسها، إذ وجد بعض العلماء النظريين أن إخضاع المادة المظلمة لمعالجاتٍ بسيطة تتفاعل فيها المادة المظلمة مع نفسها ومع المادة العادية فقط عبر الجاذبية يُمكن أن يوفر استنساخًا دقيقًا للبنية الكونية واسعة النطاق، لكن البساطة ليست مضمونةً في الطبيعة؛ ففي الواقع، يُمكن أن تتفاعل المادة المظلمة مع نفسها بسبب قوةٍ لا تزال مجهولةً حتى الآن، ولعل ذلك يحدث عبر جُسيم غير موجود في نموذج الفيزياء القياسي الحالي، ومن الوارد أن يكون هذا قد أدى إلى زيادة معدل السرعة التي نمت بها الهالات، كما يمكن أن يكون تفسيرًا للكيفية التي استطاعت بها المجرات الكبيرة الساطعة أن تنشأ بهذه السرعة.

لكن ثمة فرضية أخرى، وهي أن الهالات ببساطة أكثر كفاءةً في اجتذاب المادة العادية لتُغذِّي تَكوُّن النجوم، يقول بِناروبيا موضحًا: “أعتقد أن هذا يعطينا على الأرجح فكرةً عن كيفية تَكوُّن النجوم في هالات المادة المظلمة في وقتٍ مبكر”، تُنتج مجرتنا في الوقت الحاضر نجومًا بمعدل تقريبي يُقدر بنجمٍ واحد في كل عام، لكن الورقة البحثية التي أعدها كاستيلانو ترجح أن معدلات تَكوُّن النجوم لا بد أن تكون أعلى 20 مرة على أقل تقدير في المجرتين المرشحتين اللتين اكتشفهما هو ونايدو، وتفترض مسودة بحثية أخرى مستمدة من كشوفات «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» أن مجراتٍ بحجم مجرة درب التبانة يُمكن أن تكون قد نشأت بعد الانفجار العظيم بنصف مليار سنة فقط، وهو سيناريو ربما يستدعي أن تكون معدلات تكوُّن النجوم أعلى 10 مرات أصلًا من تقديرات كاستيلانو، ولكن وفقًا لمايكل بويلان-كولتشين، اختصاصي علم الكونيات بجامعة تكساس في مدينة أوستن الأمريكية، تتجاوز هذه المعدلات الهائلة لتكوُّن النجوم حدود المُمكن فيزيائيًّا، إذ يقول: “إذا صحَّت هذه القيم، فسيلزم أن تحوِّل المجرات كل كتلتها إلى نجوم وتُكوِّن النجوم بأسرع وتيرة ممكنة”.

وثمة احتمالٌ ربما يكون أكثر وجاهةً وهو أن النجوم كانت أكثر كفاءةً بطريقةٍ ما أو بأخرى في التجميع التراكمي للكتلة في الكون المبكر، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تكوين نجوم أضخم حجمًا وأشد سطوعًا، ما يزيد من فرص التقاط «تلكسوب جيمس ويب الفضائي» لها بسبب زيادة درجة مرئيتها لعدساته، وعن ذلك يقول ستيفن ويلكينس، الفلكي بجامعة ساسكس في إنجلترا: “ربما تُنشئ حمولةً كاملة من نجوم فائقة الضخامة فحسب”، ويُمكن أن تكون هذه نجومًا من النوع الذي يُطلَق عليه “نجوم المجموعة الثالثة”، التي يُفترَض أنها أولى النجوم في الكون، صحيحٌ أن الفلكيين لم يرصدوا إلى الآن نجومًا كهذه رصدًا قاطعًا، ولكن يتوافر الكثير من الأدلة الظرفية على وجودها، فنظرًا إلى أن نجوم المجموعة الثالثة نشأت من غازي الهيدروجين والهيليوم الأوليين اللذَين كانا منتشرَين في الكون المبكر، تفتقر هذه المجموعة إلى العناصر الأثقل، ما يسمح لها ببلوغ أحجامٍ ضخمة، أكبر من حجم شمسنا بمئات المرات، ولكن على غرار الشموع الأشد سطوعًا والأقصر عُمرًا، ربما تكون ضخامة هذه النجوم سببًا في محدودية عمرها بحيث لا يتجاوز بضعة ملايين من السنين، ما يجعل اكتشافها في الوقت الحاضر مهمةً صعبة.

ورغم ذلك، فمن الوارد أن بعض المجرات الأبعد التي اكتشفها بالفعل «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» -بل وحتى تلك الأكثر قِدمًا التي ربما تُكتشف لاحقًا- تحوي أدلةً على وجود نجوم المجموعة الثالثة، ويُمكن أن يُعزى سطوع هذه المجرات إلى مثل هذه النجوم، التي يُفترض أنها أشد سخونةً وسطوعًا من نجوم المجموعة الأولى ونجوم المجموعة الثانية (التي من بينها شمسنا)، اللتين تملآن كوننا الحديث، وعن ذلك يقول دانييل والين، اختصاصي علم الكونيات بجامعة بورتسموث في إنجلترا: “هذه الاحتمالية قائمةٌ بكل تأكيد”، ولمعرفة ذلك على وجه اليقين، سيحتاج «تلسكوب جيمس ويب الفضائي» إلى إجراء متابعةٍ رصدية طيفية لهاتين المجرتين المحتملتين الأبعد، وتلك عمليةٌ تستغرق وقتًا طويلًا؛ إذ يتعين فيها تجميع طيفٍ شبيه بقوس قزح من الضوء المنبعث من مجرةٍ لتحديد العناصر الكيميائية الموجودة في النجوم المُكوِّنة لها، ويؤكد والين أن إحدى العلامات المميزة الواضحة لنجوم المجموعة الثالثة يُمكن أن تتمثل في سمةٍ طيفيةٍ محددةٍ للهيليوم لا يُمكن أن تنشأ إلا داخل النجوم التي تتجاوز حرارتها نحو 100 ألف درجة مئوية، ويردف قائلًا: “ربما سيكون هذا دليلًا على وجود نجم ضخم من نجوم المجموعة الثالثة”.عن “ساينتيفيك أميريكان”

 

 


تعليقات الموقع