إمعان النظر في طبيعة الأزمة التي تحدث حاليًا في قطاع البنوك الأمريكية يؤكد أن أسعار الفائدة لا تتحمل الوزر الوحيد في حدوثها

البنوك الأمريكية في اختبار صلابة جديد

الرئيسية مقالات
مركز تريندز للبحوث والاستشارات

 

اتجاهات مستقبلية

البنوك الأمريكية في اختبار صلابة جديد

 

 

 

 

 

لا صوت الآن يعلو في الاقتصاد الأمريكي على صوت مؤسسة التأمين الفيدرالية على الودائع. ذلك أن هذه المؤسسة في قلب الدوامة التي تحدث حاليًا في قطاع البنوك؛ وهي الدوامة التي التهمت، حتى كتابة هذه السطور، ثلاثة بنوك أمريكية؛ اثنان منها في الاقتصاد الواقعي، والآخر بنك للأصول المشفرة؛ وهي أيضًا الدوامة التي تراكمت تدريجيًا بفعل السياسات التشددية للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال العام الماضي 2022.

وبينما تعصف هذه السياسة التشددية بالقدرات والجدارات القائمة في النظام المالي الأمريكي، فإن انهيار بنك “سيلكون فالي” ليس هو أول ضحاياها، وإن كان أشهرهم بطبيعة الحال يليه بنك “سيغنتشر”. فارتفاع أسعار الفائدة على الإقراض من نحو 0.25% ليقترب من حاجز 5% في عام واحد ليس بالأمر الهين على تكاليف الاستثمار والإنتاج والتشغيل في الشركات الأمريكية، وخصوصًا الناشئة والصغيرة منها. ولقد أضاف هذا الانهيار البنكي مزيدًا من التحديات أمام توافر السيولة للأعمال والشركات الصغيرة، وخصوصًا أن البنكين المعسرين يتخصصان في تمويل هذا النوع من الأعمال والشركات.

ولعل النجاح المأمول والمعقود على التدخلات الآنية لمؤسسة التأمين على الودائع في كبح جماح الأزمة الحالية يذكرنا بالأهمية القصوى لأنشطة التأمين على الودائع المصرفية ضد المخاطر التجارية النظامية، لكنه لا ينسينا أيضًا أن لمكافحة التضخم فاتورة ضخمة ومخاطر جسيمة يجب أخذها في الحسبان عند تطوير السياسات وبدائل المواجهة الاقتصادية. وهذه المخاطر لا تقف عند حدود النظام البنكي فقط، بل قد تمتد إلى كافة مكونات أسواق المال المحلية حال انتشار الذعر المصاحب لمثل هذه الحالات من الإفلاس المفاجئ. وفي حالة الاقتصاد الأمريكي، فإن ذعرًا ماليًا يحدث في قطاع البنوك كفيل بانتشاره دوليًا للحد الذي يمكن أن يفضي لأزمة مالية عالمية مترامية الأطراف.

ثم إن إمعان النظر في طبيعة الأزمة التي تحدث حاليًا في قطاع البنوك الأمريكية يؤكد أن أسعار الفائدة لا تتحمل الوزر الوحيد في حدوثها؛ فمن المعلوم أن التنوع في الهيكل المالي للبنك وارتفاع درجة سيولة أصوله يعتبران بمثابة الأساس المتين في قدرته على التغلب على مخاطر الإعسار المالي. والحال أن البنكين المنهارين يتسمان بتركز شديد في هيكل الإقراض والاستثمار، سواء في نوعية الشركات المقترضة أو في حجم الاستثمار في الأصول المشفرة العالية المخاطر. ولكل ذلك، فإن سؤال الوقت الذي يُطرح في سياق هذه الأزمة الطارئة هو: إلى أي مدى يمكن للسياسة الاقتصادية الأمريكية أن تنجح في إدارة هذه الأزمة وفي وقف انتشارها؟

وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل، فليس هناك من شك في أن السياسة الاقتصادية الأمريكية قد تعلمت جيدًا من درس الأزمة المالية التي ألمت بالنظام المالي الأمريكي وتداعياتها العالمية في العام 2008، سواء في أسباب حدوثها أو في آليات احتوائها وتقليل تكاليفها. وفي ظل التباين الشديد للسياق المحلي والدولي بين فترة الأزمة المشار إليها وبين الوضع الراهن، فإن عنصر الفجائية الحالي والتزامن والتشابك بين أزمات اقتصادية قائمة بالفعل، كل ذلك يمكن أن يحد من تأثير العوامل النفسية المتصلة بهذه الأزمة، وبما يتيح للسياسة الاقتصادية الأمريكية هامشًا أوسع للتحرك والاحتواء.

وعلى أية حال، ورغم أن السياق الدولي حاليًا به من الأزمات الاقتصادية ما يجعله ينوء بأزمة مالية جديدة، فإنه في حال فشل السياسة الأمريكية في احتواء تداعيات هذا الإعسار المالي لبعض بنوكها، وبرغم ضعف هذا الاحتمال، فإن التكاليف الدولية لأزمة مالية عالمية جديدة ستكون أوسع انتشارًا وأكثر فداحة وأعمق أثرًا مما تسببت فيه أزمة العام 2008.


تعليقات الموقع