نهج جديد يجعل جراحات أورام الدماغ أكثر دقةً وأقل ضرراً

الرئيسية مقالات
محمد السيد علي:صحفي علمي
نهج جديد يجعل جراحات أورام الدماغ أكثر دقةً وأقل ضرراً

نهج جديد يجعل جراحات أورام الدماغ أكثر دقةً وأقل ضرراً

 

 

 

 

 

 

على عكس معظم جراحات الجسم التقليدية التي تُجرَى تحت تأثير التخدير الكامل، تنطوي جراحات المخ على ترتيبات خاصة، من شأنها تحسين دقة الجراحة والحد من مخاطر ضعف وظائف الدماغ في أثناء الجراحة، وينطبق ذلك على جراحات الدماغ في أثناء اليقظة، وهي نوع من الجراحات يستهدف إزالة الأورام الدماغية أو علاج نوبات الصرع، ويتم إجراؤه والمريض متيقظٌ ومنتبه، وهى جراحات دائمًا ما تكون محفوفةً بالمخاطر، إذ غالبًا ما تتماهى الحدود بين خلايا الدماغ والورم المُتغلغل في المخ.

وللحد من تلك المخاطر، يلجأ الأطباء في إحدى مراحل تلك الجراحة إلى إيقاظ المريض، بهدف مراقبة نشاط دماغه في أثناء الإجابة عن بعض الأسئلة التي تُطرح عليه، لتجنُّب خطر إزالة الأجزاء الحيوية من الدماغ بدلًا من إزالة الورم، ما قد ينتج عنه ضعف في الوظائف مثل الكلام والحركة والوظيفة التنفيذية.

وينفذ الأطباء ذلك عبر تسليط نبضات كهربائية خفيفة على الأنسجة المحيطة بالورم في دماغ المريض، بينما يُطلب منه أداء مجموعة من المهمات، منها العدُّ من 1 إلى 5 مثلًا، وإذا أثّرت النبضات الكهربائية المطبقة على المكان المُراد بالدماغ في قدرته على أداء هذه المهمة، فسيترك الجراح هذا النسيج في مكانه، وبذلك يتجنّب إزالته.

ورغم أن هذا النهج يعتبر “المعيار الذهبي” لهذه العمليات حاليًّا، إلا أنه ليس مثاليًّا؛ إذ يستغرق تطبيق النبضات على أجزاء مختلفة من الدماغ وقتًا، وقد تُفقِد بعض المناطق المهمة لوظائف حيوية معينة، كما أن المجموعة الحالية من الاختبارات المعرفية التي يستخدمها الجراحون محدودة أيضًا، ولا تختبر مجموعة مهمة من الوظائف التنفيذية الأساسية مثل الذاكرة العملية والتعقّل والمرونة المعرفية وحل المشكلات، بالإضافة إلى وظائف تتعلق بالتخطيط والتنفيذ.

وفي محاولة للتغلُّب على هذه المعوقات، طوّر فريق بحثي بجامعة كامبريدج البريطانية نهجًا جديدًا يرفع مستوى الدقة في رسم الخرائط الوظيفية في جراحات الأورام، ما يساعد على الحد من فقدان الأنسجة السليمة والحفاظ على وظائف الدماغ في جراحات استئصال أورام المخ.

نشر الفريق البحثي نتائج دراسته في العدد الأخير من دورية كورتيكس (Cortex)، “النهج الجديد سيدفع مجال جراحات الدماغ في أثناء اليقظة إلى آفاق جديدة”، وفق الباحث المصري معتز عاصم، الباحث المشارك في وحدة الإدراك وعلوم الدماغ بمركز البحوث الطبية، كلية الطب السريري، جامعة كامبريدج في بريطانيا، والمؤلف الأول للدراسة.

وفي حديث لـ”للعلم” أضاف: “نقدم دليلًا قويًّا على الطريقة الجديدة التي ستوجه جراحي الأعصاب إلى كيفية تجنُّب إتلاف خلايا الدماغ الحسّاسة في منطقة الفص الجبهي التي تقع في اتجاه مقدمة المخ، وخلف الجبهة مباشرةً وتحت عظام الجمجمة الأمامية، وتتعلق بالتحكم المعرفي، أي الوظائف المعرفية المعقدة، مثل الانتباه وحل المشكلات والذكاء وما إلى ذلك”.

وأوضح أن الطريقة الجديدة تسلط الضوء بشكل انتقائي على مناطق الدماغ الحسّاسة عندما يؤدي المريض مهمةً إدراكيةً صعبةً في أثناء الجراحة.

إجراءات لتقليل المخاطر

هناك إجراءات تتم قبل جراحة الدماغ في أثناء اليقظة، أبرزها رسم خريطةٍ للمراكز الدماغية التي تتحكم في وظائف مهمة مثل الرؤية أو التحدث أو الحركة.

إن رسم خرائط الدماغ -إلى جانب صور حاسوبية ثلاثية الأبعاد مفصلة للدماغ، مأخوذة قبل الجراحة وفي أثنائها، تتضمن التصوير بالرنين المغناطيسي في أثناء العملية، وجراحة الدماغ بمساعدة الحاسوب- يتيح للجراح إزالة أكبر قدر ممكن من الورم، وتقليل مخاطر الإضرار بوظائف الجسم المُهمة.

وبجانب خرائط الدماغ، هناك إجراء آخر يتم في أثناء الجراحة، وهو طرح العديد من الأسئلة المتنوعة على المريض، إذ تساعد إجاباته الجراح في تحديد المناطق الوظيفية في الدماغ، وتجنُّب إزالتها؛ لتقليل فقدان الأنسجة السليمة والحفاظ على وظائف المخ، وفق “عاصم”.

وأوضح أن هذا الإجراء يتم عادةً من خلال إرسال تيار كهربائي ضعيف إلى المنطقة المُراد اختبارها، وبالتالي إيقاف تشغيلها مؤقتًا، وعادةً ما يختار الأطباء هذا النهج عند محاولة إزالة الورم الذي نما بالقرب من الأنسجة السليمة أو مندمجًا معها، وإذا توقف المريض عن أداء أشياء أساسية، مثل العدِّ أو تحريك أصابعه في أثناء إسكات منطقة معينة في الدماغ، فإن الجراح لا يزيلها، لذلك تُستخدم الخرائط على نحوٍ شائعٍ للوظائف ذات الاستجابات السلوكية الواضحة، مثل الوظائف اللغوية والحركية.

إلى هنا يبدو الأمر سلسًا، وفق “عاصم”، لكن المهمة تصبح أكثر تعقيدًا أمام جراح الأعصاب، عندما يريد أن يتجنب إزالة أنسجة المخ المسؤولة عن وظائف معرفية أقل أساسيةً وأكثر دقة، مثل التحكم المعرفي، وهو مصطلح يشير إلى العمليات الأساسية للسلوك المرن والموجه نحو الهدف، مثل الانتباه وحل المشكلات.

على سبيل المثال، هناك شبكة في الدماغ يُعتقد أنها مسؤولة عن القدرة على التركيز، أو تحويل الانتباه من مهمة إلى أخرى، تسمى الشبكة الجَبْهِيَّة الجِدارِيَّة (Fronto-Parietal Network)، وهي عبارة عن شبكة تربط المناطق الأمامية والجدارية في المخ، وتُظهر اتصالًا وظيفيًّا فيما بينها، وتدعم التحكم المعرفي، وتشارك في وظائف مهمة مثل الاهتمام المستمر وحل المشكلات المُعقَّدة والذاكرة العاملة، ويرتبط الضرر الانتقائي لهذه المناطق بالسلوك غير المُنظَّم، لذلك من المهم تجنُّب إتلاف هذه الشبكة في أثناء استئصال الورم.

لكن كيف يمكن لجراحي الأعصاب تحديد هذه الشبكة في أثناء الجراحة، ومن ثم عدم الإضرار بها؟

يشير “عاصم” إلى أن هناك تحديًا كبيرًا أمام جراحي الأعصاب في الوقت الحالي، وهو أن “النهج القياسي” الذي يتم عبر إرسال نبضات كهربائية إلى مناطق الدماغ المشاركة في مثل هذه الوظائف قد لا يُجدي نفعًا في هذه المنطقة بالتحديد، لأنه لن يؤدي إلى ضعف يمكن ملاحظته على الفور مثل فقدان القدرة على الكلام، لذلك كُنّا بحاجة إلى طريقة جديدة لتحديد الإشارة الكهربية التى تتعلق بالتحكم المعرفي، تُمكِّننا من تجنُّب إتلاف هذه الشبكة.

نهج جديد

لحل هذه المُعضلة، طور الفريق نهجًا جديدًا لمراقبة الشبكة الجَبْهِيَّة الجِدارِيّة، لا يعتمد على التحفيز الكهربائي للدماغ كما جرت العادة، لكنه يستند إلى طريقة ثبت بالتجربة أنها يمكن أن ترصد تفاعُلات هذه الشبكة، التي تنشط -على وجه التحديد- حينما يؤدي المريض مهمةً إدراكيةً صعبةً في أثناء الجراحة.

وخلال تجربة النهج الجديد التي تمت على 21 مشاركًا خضعوا لجراحات الدماغ في أثناء اليقظة، استعان الفريق بتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI).

و(fMRI) تقنية غير جراحية وآمنة لقياس أنشطة الدماغ وتخطيطها في أثناء الظروف العادية وكذلك المرضية، إذ تقيس التغيرات في تدفق الدم التي تحدث مع نشاط الدماغ في أثناء أداء مهمات معينة.

وشرح “عاصم” طبيعة تلك المهمة الإدراكية الصعبة التي كان بمقدور المرضى تنفيذها بسهولة في أثناء الجراحة، قائلًا: “طلبنا من المرضى عدّ الأرقام والحروف بالتناوب: 1, a, 2, b, 3, c…، كما طلبنا من المرضى أيضًا أداء مهمة أسهل، وهي العَدُّ من 1 إلى 20”.

ولتسجيل الإشارات الفيزيولوجية الكهربية، وضعنا أقطابًا كهربائيةً على القشرة المخية الجانبية قبل أن يبدأ المرضى المهمة، يسمى هذا النهج تخطيط كهربية القشرة الدماغية (ECoG)، وهي تقنية تسجيل النشاط الكهربائي للقشرة الدماغية بواسطة أقطاب كهربائية، وتتطلب شق الجمجمة جراحيًّا وزرع الأقطاب على سطح الدماغ المكشوف للحصول على تسجيلات عالية الدقة للإشارات العصبية لا توفرها تقنية (fMRI).

وتابع: “كنا مهتمين على وجه التحديد بالإشارات العصبية ذات الترددات الأعلى (المعروفة باسم “جاما العالية” وتكون بين 50-250 هرتز)، إذ أظهرت الأبحاث السابقة أنها تعكس المعالجة الموضعية، أي إذا اكتشفتها، فهذا يعني أن نوعًا من نشاط الدماغ يحدث بشكل خاص تحت القطب الكهربائي الذي يرصد ذلك النشاط، وهذا التوطين المكاني الدقيق مهم لجراحي الأعصاب من أجل تمييز الشبكة الجَبْهِيَّة الجِدارِيّة في أثناء الجراحة، وتجنُّب الإضرار بها.

وواصل حديثه: “كانت فرضيتنا أنه من خلال مقارنة المهمة الإدراكية الصعبة، مقابل المهمة الأسهل التي اختبرناها في أثناء الجراحة، فإن الأقطاب الكهربائية داخل الشبكة الجَبْهِيَّة الجِدارِيّة ستُظهر زيادةً في نشاط الإشارات العصبية ذات الترددات الأعلى.

النتائج كانت متوقعة، وفق “عاصم”؛ إذ كشف هذا النهج عن منطقة أمامية محددة تُظهر زيادات في نشاط الإشارات العصبية ذات الترددات الأعلى، وبالفعل وجدنا أن الأقطاب الكهربائية المتداخلة مع الشبكة الجَبْهِيَّة الجِدارِيَّة أظهرت زيادةً أقوى في نشاط “جاما العالية”، التي ميزتها عن الشبكات الدماغية المحيطة.

تقدم مثير

“استخدم مؤلفو هذه الدراسة أحدث الأساليب في التصوير العصبي والفسيولوجيا العصبية، والتي مكَّنتهم من رصد التغيرات الانتقائية للانتباه في القشرة الجبهية الجانبية لدى المرضى الذين يخضعون لجراحات استئصال الورم الدماغي”، وفق قول ألكسندر أونرو بينيرو، طبيب الأعصاب، في المركز الطبي التابع لجامعة بون في ألمانيا.

وأضاف -في تصريحات لـ”للعلم”- أن “الفص الجبهي معروف باحتوائه على مزيج فوضوي على ما يبدو من الخلايا العصبية مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الوظائف المعرفية، ونحن نعلم هذا من خلال الدراسات التي أُجريت على الحيوانات، ومع ذلك، فإن دراسات مثل هذه تساعد في معالجة التعقيد الخاص للفص الجبهي البشري”.

“وتُعد القدرة على التفرقة بين المناطق المتميزة وظيفيًّا من القشرة الأمامية هدفًا مهمًّا طويل المدى لعلم الأعصاب الإدراكي، وتمثل هذه الورقة تقدمًا مثيرًا محتملًا في هذا المجال”، وفق كارتيك سرينيفاسان، أستاذ مساعد في علم النفس البيولوجي، والذي أضاف لـ”للعلم” أن “القدرة على رسم خريطة القشرة المخية وظيفيًّا باستخدام الفيزيولوجيا الكهربية خطوة كبيرة إلى الأمام”.

وعن أهمية هذه النتائج، أضاف “عاصم” أنها توضح أن تخطيط كهربية القشرة الدماغية يمكن أن يوفر معلومات تكميلية لتوجيه التحفيز واتخاذ القرارات السريرية في أثناء الجراحة، خاصةً لوظائف التحكم الإدراكي، كما أن العلاقة بين زيادة قوة “جاما العالية” وتحديد الشبكة الجَبْهِيَّة الجِدارِيّة توفر أساسًا وظيفيًّا وتشريحيًّا مهمًّا لهذا النهج الذي يتيح تحديد مناطق وظيفية متميزة عمليًّا داخل قشرة الفص الجبهي، تفيد بشكل خاص خلال جراحة الدماغ في أثناء اليقظة.

ومن المثير أيضًا أن نتائجنا لها آثار على عمل علم الأعصاب الأساسي، وفق “عاصم”؛ إذ يعتبر الفص الجبهي مقر الذكاء البشري، ومع ذلك، فإن الطريقة التي يتم بها تنظيم قشرة الفص الجبهي تشريحيًّا ووظيفيًّا للتحكم في الإدراك تظل محيرة، ورغم أن (fMRI) ترصد مناطق وظيفية دقيقة لهذه المنطقة، فإن رصد الإشارة الكهربية المتعلقة بالمناطق الأمامية الدقيقة لهذه المنطقة “ظل أمرًا بعيد المنال”، وهكذا تتكامل نتائج تقنية (ECoG) مع تقنية (fMRI) في إظهار تشريح وظيفي دقيق لمناطق التحكم الإدراكي في القشرة الجبهية الجانبية..يتبع. عن “ساينتيفيك أميريكان”