مركز تريندز للبحوث والاستشارات

اتجاهات مستقبلية

الرئيسية مقالات

اتجاهات مستقبلية
المرونة الآسيوية في مواجهة التحديات الاقتصادية

 

تقف القارة الآسيوية بين الطموح الكبير بالتنمية والتحديات الاقتصادية المحلية والدولية، في عالم لم يتعافَ بالكامل من أزماته الاقتصادية منذ جائحة كورونا، وبين الحروب الدولية وتأثيرها على سلاسل التوريد والتجارة الدولية، والأعباء التضخمية، يضاف إلى ذلك السياسات الحمائية، إذ تبرز الرسوم الجمركية كقيود على الصادرات الآسيوية لارتفاع تكلفة الانخراط مع أسواق السلع والخدمات العالمية، وبالتالي احتمال تضرر الميزان التجاري والناتج المحلي الإجمالي وفرص العمل.
ويمكننا وصف حال بعض الدول في آسيا بالهش، سواء أكانت من الدول المثقلة بالديون، أو التي تواجه احتمالات فقد أجزاء مهمة من عائداتها التصديرية، خاصة أن توتر الاقتصاد العالمي يتزايد، وبدأ يدخل في مرحلة من التباطؤ والركود. ومع خروج السندات السيادية الدولية من عدد من الأسواق الناشئة -بعد بيع مكثف للسندات، مثل باكستان وسريلانكا- فإن ذلك يعني ضعف القدرة على تحقيق موارد العملة الصعبة.
وبعيدًا عن السياسات الحمائية، يشهد الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة معاناة من سلسلة من الأزمات، منها الأزمات المناخية التي تقع في بلاد شتى وتتسبب في كوارث طبيعية كالجفاف والفيضانات، ومنها انتشار النزاعات الداخلية وغياب السلم الدولي، ومنها كذلك الأعباء التضخمية التي لا يكاد العالم يتعافى من آثارها حتى تعود مجددًا على نطاق واسع، فضلًا عن الأزمات التمويلية وتكلفتها الكبيرة، لاسيّما على الاقتصادات النامية والناشئة.
ولذا، يمكن للدول الآسيوية، خاصة الصناعية، تنويع الشراكات التجارية مع أسواق كانت غير أساسية، وعدم الارتكان على القوى الكبرى وحدها، والتعاون على أساس المصلحة، وضخ الاستثمارات في مبادرات استراتيجية ومشروعات تنموية تساعد في رفع مستوى حياة الشعوب، وتخفيف شروط القروض والمساعدات والمنح مقارنةً بالمؤسسات المالية الدولية، من أجل دفع حركة الاقتصاد إلى الأمام، وعدم ترك الاقتصادات الناشئة لمسلسل أزمات مالية وتنموية لا تنتهي، وستؤثر فيما بعد على الإقليم، وربما على العالم كله.
وبتسليط النظر على الأزمات الدولية، سنجد أن الدول الآسيوية تحتاج إلى إعادة تقييم وجهتها الاقتصادية والشراكات الإقليمية والدولية، والتخفف من القيود على حركة السلع والبضائع بناء على قاعدة الربح للجميع، وذلك عبر التفاوض من خلال التكتلات لتقوية المواقف التفاوضية، وكذلك تنمية القدرات الإنتاجية والاستفادة بالموارد الطبيعية أقصى استفادة، وتنويع الأسواق والشركاء التجاريين والروافد الاقتصادية؛ ما يوفر مرونة أكبر في مواجهة التقلبات العالمية.
ومن غير المنطقي الشروع في اتخاذ إجراءات حمائية مضادة تعيق حركة التجارة، خاصة من الدول النامية والناشئة، واستبدالها بالتفاوض حول خفض الرسوم الجمركية، مثلما قررت كمبوديا رَدًّا على السياسات الأمريكية، لاسيّما إذا لم تكن القدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في أفضل حال، أو أن أعباء هذه السياسات جمة على بلد يحتاج إلى النمو والتنمية وتلبية متطلبات المواطن.
وكان من الحكمة أن تتعهّد رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بعدم فرض تدابير مضادة للولايات المتحدة بسبب الرسوم الجمركية، خاصة أن الولايات المتحدة أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة لآسيان، وثاني أكبر شريك تجاري في 2024. لكن أهمية ذلك تكتمل مع تسريع التكامل الاقتصادي الإقليمي، سواء داخل تكتل آسيان، أو في تكتلات دولية أخرى مثل “بريكس”، فالفرص كبيرة، غير أن الثمار لن تأتي دون عمل.
ويمكن لآسيا الاعتماد على سياسة التعاون والتفاوض بدلًا من الاستقطاب، في ظل حالة عدم اليقين، والمخاطرة بالانحياز لقوى اقتصادية على حساب أخرى. وهذا لا يمنع حدوث تحالفات غير صفرية، أي لا مانع من تعزيز التكامل الاقتصادي بين الصين ودول جنوب شرق آسيا، لكن بتوازن وانحياز للمصلحة، وبما لا يثير موجة حمائية مُتصاعدة، مع الحَدّ من الأضرار القائمة، خاصة أن آسيا تتحمل العبء الأكبر من الرسوم الجمركية الأمريكية.
وفي آسيا أيضًا هناك من لا تمثل له السياسات الحمائية الأمريكية مخاطر كبيرة، مثل الهند وكوريا الجنوبية واليابان، نتيجة للاستثناءات على الرقائق الإلكترونية والأدوية، في حين أن الصين هي الأكبر في فرض رسوم تجاهها من الولايات المتحدة. وهناك تحديات أمام اقتصادها القوي في تعويض السوق الأمريكية، إذ إن الصين لديها باستمرار قدر من المرونة قد تجعل الأزمات الدولية لا تؤثر كثيرًا على وضعها الاقتصادي في العالم.
إن إجمالي الناتج المحلي لدول قارة آسيا وصل إلى نحو 40 تريليون دولار في عام 2024، وفقًا صندوق النقد الدولي، والصين هي المهيمن على المشهد الاقتصادي بناتج محلي إجمالي قدره 18.3 تريليون دولار، أي ما يعادل 45.99% من إجمالي الناتج المحلي للقارة. ومعظم الاقتصادات الناهضة في آسيا لها أسس قوية تعطيها قدرة على الصمود، كما تمتلك ثروات ومعادن نادرة، وأوراق ضغط، قد تجعلها قادرة على امتصاص الأزمات، غير أن هذا الأمر يتطلب المرونة، وزيادة الاستثمار، وتقليل فقدان الوظائف، وتوفير فرص عمل جديدة، وعملًا إقليميًّا ودوليًّا منسقًا وقائمًا على التعاون والحوار للتكامل الاقتصادي، مع الحذر من الضغوط على العملات الآسيوية في حالة عدم اليقين الحالية، التي قد تؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية وتؤثر بشكل كبير على الفئات الهشة في المجتمعات.


تعليقات الموقع