اتجاهات مستقبلية

الرئيسية مقالات
مركز تريندز للبحوث والاستشارات

اتجاهات مستقبلية
“بين واشنطن وبكين: شراكات بلا شروط أم ولاءات مكلفة؟”

في ظل اشتداد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، تجد الدول الأخرى نفسها مضطرة للتنقل بين قوتين عالميتين تتنازعان الهيمنة على الاقتصاد العالمي.
إن مطالبة الصين الأخيرة، التي عبّرت عنها في محافل رسمية، بعدم جعل الشَّراكات مع الولايات المتحدة تأتي على حساب مصالحها، تعكس شعورًا متزايدًا بالتهميش تعانيه قوى رئيسية في النظام الدولي. وفي المقابل، تستمر الولايات المتحدة في فرض ضغوط سياسية واقتصادية على شركائها من أجل الحد من تعاملهم مع بكين، وخصوصًا في القطاعات التي تسعى الولايات المتحدة لاستمرار هيمنتها عليها، أو كبح نفوذ الصين عن الوصول الواسع إليها.
وسط هذه التجاذبات، يغدو من الضروري إعادة التأكيد على حق الدول -ولاسيما النامية منها- في بناء شراكاتها الاقتصادية بحرية تامة، من دون التعرض لضغوط تمس سيادتها أو تضع مصالحها الوطنية في موضع التهديد. هذا الحق لا يرتبط فقط بمفهوم العدالة، بل يُعدُّ أيضًا ضرورة عملية لضمان تماسك النظام التجاري العالمي الراهن، الذي يعاني اليوم اختلالاتٍ متزايدةً بفعل تصاعد السياسات الحمائية، قد تهدد بتداعيه في القريب، إذا استمرت الحرب التجارية والضغوط المتبادلة على الشركاء.
وقد أشار أحدث التقارير الصادرة عن منظمة التجارة العالمية، الأسبوع السابق، إلى أنها خفضت بشكل حادٍّ توقعاتها للتجارة العالمية في السلع، من نمو قوي إلى انخفاض، قائلة إن المزيد من الرسوم الجمركية الأمريكية والآثار الجانبية قد تؤدي إلى أشد ركود منذ ذروة جائحة كوفيد-19. كما أعلنت المنظمة العالمية أنها تتوقع انخفاض تجارة السلع بنسبة 0.2% هذا العام، بانخفاض عن توقعاتها في أكتوبر بنمو قدره 3%. وأوضحت أن تقديراتها الجديدة استندت إلى الإجراءات المطبقة في بداية الأسبوع الماضي.
وعلى مستوى آخر، حذرت كريستالينا جورجيفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، خلال تصريحاتها في اجتماعات الربيع لعام 2025، من أن “التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تقوّض الابتكار والإنتاجية، وتؤثر سلبًا على الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة، التي تعتمد على نظام عالمي قائم على قواعد مستقرة”. ودعت إلى ضرورة التفاهم بين الطرفين بدلًا من تعميق الانقسامات، مشيرة إلى أن كلا الطرفين لديه “شكاوى مشروعة”، ولكن ينبغي التعامل معها عبر المؤسسات المتعددة الأطراف، وليس عبر الضغط على الحلفاء والشركاء.
في هذا السياق، تبرز أهمية الشَّراكات المتنوعة التي تسعى بعض الدول إلى بنائها مع أطراف متعددة، بما يضمن لها الاستفادة من الفرص المتاحة من دون الانحياز لطرف ضد آخر. وتعكس المبادرات الإقليمية، مثل الشَّرَاكات الأفريقية-الآسيوية والتحركات الجارية في إطار منظمتَيْ “بريكس” و”آسيان”، إدراكًا متناميًا بأن استقرار النظام التجاري العالمي ربما لا يأتي من محوره التقليدي الغربي-الشرقي، وإنما من المساحات التي تحتفظ فيها الدول بهوامش سيادية للمناورة.
لقد بات واضحًا أن مستقبل النظام التجاري العالمي لن يُحسم فقط في بكين أو واشنطن، بل في قدرة الأطراف الأخرى على الدفاع عن مصالحها بمرونة وشجاعة، وأن حرية بناء الشراكات الاقتصادية لا يجوز أن تكون ضحية لحرب باردة اقتصادية جديدة، بل ينبغي أن تُكرَّس كمبدأ أساسي في مرحلة التحوُّل العالمي الراهنة.


تعليقات الموقع