اتجاهات مستقبلية
إعادة تشكُّل الخطر.. داعش من دمشق إلى سيدني وخيارات الرد الأمريكية
بعد أشهر من الانزواء، عاد اسم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) إلى تصدُّر واجهات الصحافة العالمية، وتحديدًا في الأسابيع الأخيرة من عام 2025؛ بيد أن هذه المرة ليست عبر مشاهد سيطرة ميدانية صاخبة كما في الماضي، بل من خلال سلسلة أحداث متباعدة جغرافيًّا ومتشابكة دلاليًّا، وأقل كلفة ماديًّا، ومثيرة للمخاوف عالميًّا. وهي العمليات التي أعادت التذكير بأن هذا التنظيم، رغم انكساره العسكري والميداني في مواقع عدة، لم يفقد قدرته على الإيذاء أو بث الخوف ونشر الذعر بين الآمنين حول العالم. وبينما تبدو المسافة شاسعة بين تَدْمُر في قلب الأراضي السورية وسيدني على حدود العالم المأهول، فإن الخط الناظم بينهما إنما هو هشاشة الأمن في مواجهة عنف غير متوقع مصدره الإرهاب.
بدأ المسار الأحدث لداعش في يوم 13 ديسمبر 2025، حين قُتل جنديان أمريكيان ومترجم مدني متعاقد مع القوات الأمريكية في هجوم نفذه عنصر مرتبط بالتنظيم أو مُستلهِم من فكره في مدينة تَدْمُر وسط سوريا. ولا تكمن أهمية هذا الهجوم في خسائره البشرية فحسب، بل في طبيعته؛ إذ جاء من داخل بيئة يُفترض أنها خاضعة للضبط الأمني؛ وهو ما أعاد إلى الواجهة سيناريو “الهجمات من الداخل”، التي تعتمد على أفراد منفردين أو خلايا صغيرة غير مرتبطة تنظيميًّا بشكل مباشر بقيادة مركزية. كما أنه يأتي في وقت تسعى فيه الحكومة السورية، بقيادة “الشرع”، لتثبيت أقدامها وتقديم نفسها كنموذج جديد منفتح على الغرب ويحارب الإرهاب.
وبعد ستة أيام فقط، في 19 ديسمبر، أعلنت الولايات المتحدة تنفيذ ضربات واسعة النطاق استهدفت عشرات الأهداف المرتبطة بداعش في سوريا، في عملية وُصفت بأنها رد مباشر على هجوم تَدْمُر. ووفق ما أعلنه وزير الدفاع الأمريكي، هدفت الضربات إلى تدمير مقاتلي التنظيم وبنيته التحتية ومواقع أسلحته، مستخدمة مقاتلات حربية ومروحيات هجومية ومدفعية صاروخية، مع تركيز خاص على مناطق البادية السورية في حمص وشرق الرقة وغرب دير الزور. وعليه، تعكس المسافة الزمنية الفاصلة بين هجوم تدمر والرد الأمريكي إصرار واشنطن على تثبيت معادلة ردع واضحة، مفادها أن استهداف قواتها سيُقابل بضربات فورية ومكثفة.
بيد أن دلالات المشهد الراهن لداعش لا تتوقف عند سوريا؛ ففي التوقيت ذاته تقريبًا، سلطت تقارير غربية عدة الضوء على تصاعد هجمات دامية مستوحاة من أيديولوجية داعش خارج الشرق الأوسط؛ وهو ما مثَّل صدمة لكثيرين بعد انحسار التنظيم والموجة الإرهابية منذ سنوات إلا فيما ندر، إذ إن حادثة سيدني أثارت قلقًا غربيًّا واسعًا بشأن عودة التنظيم، أو على الأقل عودة تأثيره الفكري التحريضي، واستلهام نموذجه وأدواته وعنفه.
لا تعكس هذه التطورات -كما أشارت تقارير إعلامية أمريكية مختلفة- وجود شبكة عمليات مركزية واحدة تربط دمشق بسيدني بالضرورة، بل تعبر عن نمط جديد من التهديد يعتمد على الإلهام الأيديولوجي، والعمل الفردي أو شبه الفردي، واستثمار الفضاء الرقمي في التحريض والتعبئة؛ وهو ما أثبتته التحقيقات في سيدني حيث وجدت إعجابًا وتفاعلًا من الجناة مع حسابات مرتبطة بداعش.
نظريًّا، يمكن القول إن داعش لم “يعد” بالمعنى التقليدي الذي شهدناه على مدار أكثر من عقد، بل أعاد تشكيل نفسه في صور جديدة تتجاوز أدواته وميادينه المعتادة. فالتنظيم الذي خسر قياداته ومساحاته الجغرافية الكبرى في الشام وشمال أفريقيا، بات يعتمد على نموذج أقل كلفة وأكثر صعوبة في المواجهة؛ وهم أفراد متأثرون بخطابه، أو خلايا صغيرة غير مرتبطة بسلسلة قيادة واضحة، قادرة على التحرك في مسارح مختلفة وبوسائل بسيطة نسبيًّا، وهو الأسلوب التاريخي المستوحى من موجات إرهاب ما قبل داعش.
استشرافيًّا، يفرض الواقع الراهن لمواجهة إعادة تَشَكُّل داعش -فكرًا وممارسةً- نهجًا أكثر تكاملًا ومتعدد الطبقات؛ يجمع بين الضغط العسكري المستمر، والتعاون الاستخباراتي الدولي، وسياسات فعالة لمكافحة التطرف، وتحصين فكري للأفراد والمجتمعات. فالتحدي لم يعد القضاء على داعش كتنظيم فحسب، بل احتواء أثره المتشظي، وإبطال قدرته على العدوى والتسرب في أي لحظة، من دمشق إلى سيدني.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.