صفقة تاريخية: تأثير الاستحواذ المحتمل على “وارنر براذرز” في الترفيه العالمي
شهدت صناعة الترفيه العالمية في السنوات الأخيرة تحولاً كبيراً، أعاد رسم موازين القوة داخل القطاع؛ مدفوعاً بصعود منصات البث الرقمي وتراجع نماذج التوزيع التقليدية. وفي ظل التنافس الشديد على الملكيات الفكرية والمكتبات السينمائية الضخمة التي باتت تمثل المحرك الأساسي للنفوذ في هوليوود؛ برزت صفقة الاستحواذ المحتملة على شركة “وارنر براذرز ديسكفري” (WBD) كواحدة من أبرز المحطات المفصلية في تاريخ الإعلام المعاصر.
وتأتي هذه التطورات في وقت تواصل فيه “وارنر براذرز” تنفيذ خطتها للانقسام إلى شركتين مدرجتين في البورصة خلال صيف العام المقبل؛ حيث تهدف “نتفليكس” (Netflix) إلى الاستحواذ على الكيان الذي يضم أصول “وارنر براذرز” السينمائية والتلفزيونية ومنصات البث، ونصفاً آخر يسمى “ديسكفري غلوبال” يضم شبكة (CNN) وقنوات الشبكة الأخرى.
ومع دخول “نتفليكس” و”باراماونت سكاي دانس” (Paramount Skydance Corp) في منافسة للاستحواذ على أصول شركة “وارنر براذرز” خلال ديسمبر 2025؛ تحولت القضية إلى محور نقاش اقتصادي وسياسي وثقافي واسع، كونها تعكس اتجاهاً متسارعاً نحو تركز ملكية المحتوى واتساع نفوذ شركات التكنولوجيا والبث الرقمي عالمياً. كما تكتسب الصفقة أهميتها من امتلاك “وارنر براذرز” واحدة من أضخم المكتبات في الصناعة، تشمل امتيازات من أشهر السلاسل التلفزيونية والسينمائية، إضافة إلى إرث إنتاجي يتجاوز مئة عام.
احتدام المنافسة:
أعلنت شركة “نتفليكس”، في 5 ديسمبر الجاري، توصلها إلى اتفاق للاستحواذ على حصص من شركة “وارنر براذرز”، وذلك في سياق موجة تنافسية شديدة بين عدة شركات إعلامية كبرى، من بينها “باراماونت” و”كومكاست” (Comcast)، سعت جميعها إلى اقتناص أصول الشركة ذات القيمة الاستراتيجية العالية؛ باعتبارها إحدى الشركات الرائدة في صناعة الترفيه عالمياً؛ إذ تمتلك حقوق عدد من أشهر السلاسل التلفزيونية والسينمائية مثل “هاري بوتر”و”فريندز” و”غيم أوف ثرونز” و”ذا سوبرانوز” ومنصات للبث.
ووفقاً لبيان “نتفليكس”، فقد تم التوصل إلى اتفاقية اندماج مبدئية مع “وارنر براذرز” تستهدف الاستحواذ على الأصول السينمائية والتلفزيونية والمنصات الرقمية التابعة لها، بما في ذلك شبكة “هوم بوكس أوفيس” (HBO) وخدمة البث (HBO Max)، بقيمة 27.75 دولار أمريكي للسهم الواحد، منقسمة إلى23.25 دولار نقداً لكل سهم، إضافة إلى منح المساهمين الحاليين في “وارنر براذرز” حصة في الكيان الجديد بعد الاستحواذ؛ مما يجعل الصفقة مزيجاً من النقد والأسهم. وبذلك تصل قيمة الصفقة السوقية إلى 72 مليار دولار، وبإجمالي قيمة تبلغ نحو 82.7 مليار بما فيها الديون. ويُشكل هذا العرض خطوة استراتيجية تهدف إلى توحيد مكتبة محتوى هائلة تحت مظلة منصة البث العملاقة؛ ومن ثم توسيع نطاق المحتوى العالمي وتعزيز القدرة التنافسية على الساحة الدولية.
وقد صُمم عرض “نتفليكس” بحيث يعيد هيكلة “وارنر براذرز” عبر فصل عدد من أصولها – بما في ذلك شبكة (CNN) و(TNT) و(TBS)- في كيان مستقل، بينما تستحوذ “نتفليكس” على الأنشطة الأساسية ذات الصلة بالبث والإنتاج. وتمثل هذه الاستراتيجية امتداداً لرؤية “نتفليكس” الهادفة إلى تعزيز قاعدة محتواها وتوسيع قدراتها الإنتاجية وتوزيعها عالمياً، وتتوقع “نتفليكس” إتمام الصفقة في الربع الثالث من عام 2026.
وبعد إعلان “نتفليكس” عن اتفاقها المبدئي، لم تتقبل شركة “باراماونت” خسارتها للصفقة، وقدمت عرضاً مباشراً في 8 ديسمبر الجاري إلى المساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار نقداً كاملاً؛ أي ما يعادل 30 دولاراً لكل سهم، ويمثل العرض إضافة 139% على قيمة الشركة قبل بدء محادثات الاستحواذ.
ويمتاز عرض “باراماونت” ببنيته البسيطة ونقديته الكاملة، وهو ما تقول “باراماونت” إنه يمنح المساهمين 18 مليار دولار نقداً إضافية ودرجة أكبر من اليقين مقارنة بخطة “نتفليكس” (نقدي وأسهم)، إضافة إلى توفير مسار أسهل للحصول على موافقة الجهات التنظيمية. وقالت “وارنر براذرز”، في بيان لها، إنها ستجري مراجعة ودراسة دقيقة لعرض “باراماونت”، قبل أن تعلن لاحقاً، في 17 ديسمبر الجاري، رفضها لهذا العرض، معللة ذلك بأن “باراماونت” لم تقدم ضمانات تمويلية كافية، كما نصحت مساهميها برفضه أيضاً. ولم تحدد “وارنر براذرز” موعد تصويت المساهمين على الصفقة، إلا أن رئيس مجلس إدارتها، صامويل دي بيازا، رجح أن يتم ذلك في الربيع أو أوائل الصيف المقبل.
تحديات الصفقة:
بعد رفض عرضها، قد تحتفظ “باراماونت” بعدة خيارات أخرى، من بينها التقدم بعرض شراء مباشر للأسهم، أو تمديد العرض، أو اللجوء إلى القضاء للطعن في صفقة “نتفليكس” بدعوى الاحتكار وتقليل المنافسة؛ إذ إن كلا الجانبين يستعد لمعركة قانونية وتنظيمية محتملة. ويأتي هذا كله في ظل سياق سياسي وتنظيمي شديد الحساسية، حيث أعرب بعض الساسة الأمريكيين عن مخاوف تتعلق بتركيز الملكية الإعلامية، ولا سيّما في حال استحواذ “نتفليكس” على أصول كبرى.
وتواجه صفقة “نتفليكس” أيضاً معارضة نقابية وقانونية واسعة؛ إذ يخشى ممثلو الصناعة من أن يؤدي توسع “نتفليكس” – التي تمتلك قاعدة تتجاوز 300 مليون مشترك مقارنة بنحو 79 مليوناً لمشتركي “باراماونت”- إلى تعزيز هيمنتها السوقية بشكل يتيح لها رفع أسعار الاشتراك أو تقديم شروط إنتاج أقل ملاءمة لصُناع المحتوى.
وتظهر بيانات شركة (Nielsen) للأبحاث أن “نتفليكس” تستحوذ حالياً على 8% فقط من إجمالي وقت المشاهدة التلفزيونية في الولايات المتحدة، إلا أن دمج (HBO Max) معها قد يرفع الحصة السوقية للكيان الجديد إلى ما يتجاوز 30%؛ وهو ما يثير مخاوف جدية بشأن احتمالات تشكّل قوة احتكارية في سوق البث الأمريكي.
وقد أعلنت نقابات هوليوود، بما فيها نقابة ممثلي الشاشة (SAG-AFTRA) ونقابة الكتاب الأمريكية، رفضها للصفقة بدعوى أنها تهدد الوظائف وتضعف الأجور وتقلل من تنوع المحتوى المتاح للجمهور، كما شارك سياسيون من الحزبين الرئيسيين هذه المخاوف. في حين بادر أحد مشتركي (HBO Max) برفع دعوى قضائية ضد “نتفليكس”، معتبراً أن الاندماج المُقترح سيحد من المنافسة في سوق البث.
تأثيرات محتملة:
تشير التقديرات إلى أنه في حالة إتمام صفقة الاستحواذ على “وارنر براذرز”؛ فإنها ستؤدي إلى تحولات جوهرية في بنية صناعة الترفيه العالمية على عدة مستويات. فدمج واحدة من أكبر منصات البث في العالم مع مكتبة إعلامية ضخمة قد يعيد رسم خريطة المنافسة والإبداع في القطاع، ويثير تداعيات اقتصادية وثقافية وتنظيمية عابرة للحدود. ويمكن رصد أهم هذه التداعيات كما يلي:
1- السيطرة على الإعلام الأمريكي: حذر عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي من أن إتمام صفقة استحواذ “نتفليكس” على “وارنر براذرز” قد يؤدي إلى هيمنة شركة واحدة على جزء كبير من محتوى المشاهدة التلفزيونية في الولايات المتحدة؛ مما يعزز مظاهر الاحتكار. وقد دفع ذلك الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى التعليق على الصفقة، مؤكداً أنه سيكون له رأي بشأن المُضي في الاندماج المقترح بين “نتفليكس” و”وارنر براذرز”، لافتاً إلى أن الحصة السوقية للكيان الجديد قد تثير العديد من المخاوف. وإذا تمت هذه الصفقة، فستنشأ أقوى مجموعة ترفيهية في تاريخ الإعلام الحديث؛ حيث سيصبح الكيان المدمج قوة بث عالمية بقاعدة مشتركين ضخمة، وأصول استوديوهات واسعة، وشبكة توزيع عالمية غير مسبوقة.
2- التحكم في التسعير وتراجع المنافسة: من المُتوقع أن يعزز الكيان الجديد، في حالة إتمام الصفقة لصالح “نتفليكس”، قدرته التفاوضية في سوق البث العالمي؛ ما قد يؤدي إلى رفع أسعار الاشتراك مع مرور الوقت، كما حدث في زيادات “نتفليكس” الأخيرة في عدة أسواق. كما قد يتركز إنتاج المحتوى وصناعته بشكل يحد من القوة التفاوضية للمبدعين ويؤثر سلباً في العوائد التي يحصلون عليها مقابل حقوق المحتوى. إضافة إلى ذلك، يكمن التحدي الأكبر في أن قوانين مكافحة الاحتكار التقليدية تركز على المنافسة الاقتصادية والحصة السوقية؛ لكنها غير مجهزة للتعامل مع السيطرة الرقمية على الثقافة والمحتوى.
3- الهيمنة الرقمية وتهديد التنوع الثقافي: قد تُمكن الصفقة المحتملة “نتفليكس” من تقديم رؤيتها ومحتواها وأسلوبها لجمهور عالمي؛ ما يتيح لها تمرير أفكارها وأيديولوجياتها على نطاق واسع. وهذه السيطرة تقلل من الفرص والأفكار الإبداعية، مع تآكل طويل الأمد لتنوع الروايات الثقافية العالمية؛ ما يثير تساؤلات حول مصير الاستقلال التحريري وتمكين صانعي المحتوى من اتخاذ قرارات قائمة على الرؤية الفنية، ناهيك عن التحكم في أدوات تشكيل الرأي والثقافة والإعلام العالمي.
4- إعادة تشكيل المنافسة بين شركات التكنولوجيا والإعلام: قد يفتح هذا الاندماج مرحلة جديدة من التنافس بين عمالقة التكنولوجيا مثل “آبل” (Apple) و”أمازون” (Amazon)، واستوديوهات هوليوود التقليدية. ومن المُتوقع أن تدفع الصفقة شركات أخرى إلى تحالفات أو عمليات دمج دفاعية لحماية حصصها السوقية، وسيواجه المنافسون مثل “ديزني” و”أمازون” و”آبل” و”كومكاست/ إن بي سي يونيفرسال” كياناً منافساً يتمتع بحجم غير مسبوق، وقدرات تحليلية متقدمة، ونفوذ تفاوضي قوي.
محطة مفصلية:
يبدو أن صفقة الاستحواذ المحتملة على “وارنر براذرز” تشكل محطة مفصلية في مسار صناعة الترفيه العالمية؛ حيث تعكس التحول العميق نحو تركز ملكية المحتوى وتقدم الشركات الرقمية الكبرى إلى صدارة المشهد الإعلامي العالمي في مقابل تراجع وسائل الإعلام التقليدية. وهذا الاتجاه يمثل فرصة لإعادة هيكلة سلاسل الإنتاج والتوزيع وابتكار صيغ جديدة للتوسع؛ لكنه يثير في الوقت ذاته موجة من المخاوف التنظيمية والثقافية والاقتصادية ليس بالداخل الأمريكي فحسب، بل على مستوى العالم.
ويزيد المشهد تعقيداً أن الإدارة الأمريكية الحالية، عبر البيت الأبيض ودوائر صناعة القرار، أبدت اهتماماً مباشراً بصفقة “وارنر براذرز”، مشيرة إلى مخاوف تتعلق بالاحتكار، وحرية الإعلام، وتأثير تركز القوة الرقمية في يد كيان واحد في حالة استحواذ “نتفليكس” على الشركة؛ الأمر الذي يجعل المسار النهائي للصفقة مرتبطاً بدرجة كبيرة بمدى استعداد السلطات التنظيمية والكونغرس للتدخل أو فرض شروط صارمة قد تعطل أو تعيد هيكلة الاتفاق بالكامل.
وعلى المستوى العالمي، يبقى السؤال الأهم متعلقاً بمستقبل التعددية الثقافية وقدرة الدول الأخرى على حماية إنتاجها المحلي أمام هذا التركز المتسارع في القوة الإعلامية؛ فإتمام الصفقة أو فشلها سيحمل تداعيات عابرة للحدود، ليس فقط على الشركات المنافسة، بل على شكل الصناعة وعلى طبيعة الروايات والأفكار والأيديولوجيات التي قد تصل إلى الجمهور.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.