أميركا: تصدع جدار الصمت الأزرق
كنت أقود سيارتي في يوم من الأيام عندما لاحظت انتهاء ترخيص اللوحات المعدنية لسيارتي. لم أشعر بالذعر، لم يكن هناك ما يدعوني إلى ذلك. وإذا ما أوقفني ضباط المرور، يمكن أن أشعر بالاطمئنان كرجل ذي بشرة بيضاء: لن تكون حياتي في خطر.
كانت لوحات السيارة منتهية الصلاحية التي دفعت الشرطة إلى إيقاف دونت رايت، ذلك الشاب من أصل إفريقي الذي لقي مصرعه على أيدي الضابط كيم بوتر في إحدى ضواحي مدينة مينيابوليس خلال الشهر الجاري. ولقد وصفت السلطات المحلية الأمر بأنه حادث سيارة مميت، على الرغم من أن عائلة القتيل لم تصدق ذلك على الإطلاق. كما كانت لوحات السيارة المؤقتة هي التي أسفرت عن سلسلة من قيام رجال الشرطة في ولاية فيرجينيا برش رذاذ الفلفل الحارق ضد كارون نازاريو الملازم بالفيلق الطبي في الجيش الأميركي، وهو مواطن من أصول لاتينية.
قال الملازم نازاريو لرجال الشرطة: «إنني أخدم في جيش هذه البلاد، وهذا ما تعاملونني به؟»، كانت الأصول العرقية هي التفسير الوحيد لمثل هذه الاعتداءات البغيضة من جانب رجال الشرطة. وزاد من تفاقم الهجمات ذلك الشعار الذي يسمى جدار الصمت الأزرق الذي يدعو رجال الشرطة إلى السكوت عن مخالفات بعضهم من تهم الوحشية وارتكاب الجرائم: إذ قام ضابطان بتقديم البيانات الخاطئة شبه المتطابقة بشأن ما جرى، وفقاً لدعوى قضائية مرفوعة من قبل الملازم نازاريو.
رجال الشرطة حماة الدولة. بل إنهم هم الدولة بنفسها. وإننا نبجلهم للجزء الأول من العبارة، ونخشاهم للجزء الثاني منها. لكن، حتى في الوقت الذي ندين فيه جولات أخرى من العنف المروع والمفرط الذي تمارسه الدولة ضد المواطنين الأميركيين من اصول إفريقية، فهناك في واقع الأمر بصيص من الأمل على سبيل إصلاح جهاز الشرطة في الولايات المتحدة.
ربما يكون جدار الصمت الأزرق قد بدأ في التصدع، وربما قد انهار تماماً في محاكمة الضابط ديريك شوفين.
إنه ليس بالأمر اليسير أن كثيراً من ضباط الشرطة في مدينة مينيابوليس، بمن فيهم رئيس الشرطة ميداريا أرادوندو، قد اتخذوا موقفاً صلباً ضد الضابط شوفين أثناء محاكمته بسبب مقتل المواطن جورج فلويد. فلقد وقع 14 ضابطاً من دائرة القسم نفسها على خطاب عام ومفتوح في السنة الماضية، جاء فيه: “لقد فشل الضابط ديريك شوفين في مهمته كضابط للشرطة، وانهار على المستوى الإنساني عندما جرد المواطن جورج فلويد من كرامته، وإنسانيته، ومن حياته”.
ربما تكون مثل هذه التصرفات الشجاعة نادرة الحدوث، أو ربما هي تمثل مجرد خدوش طفيفة في جدار الصمت الأزرق المؤسسي الكبير. ولسوف يتطلب الأمر كثيراً من الجهود من رجال الشرطة في قضية القتل العنصري التي مزقت أوصال الأمة الأميركية من قبل السلطات الشرطية حتى تُلحق الأضرار بهذا الجدار البغيض.
إن رجال الشرطة الذين يحمون ويدافعون عن رجال الشرطة المجرمين متأصلون في النظام الأميركي. ويشعر كثير من ضباط الشرطة بأن رفيق أو رفيقة السلاح فقط هم المدركون لحجم المخاطر التي يواجهونها ، وهم يدعمونهم تمام الدعم في تلك المزاعم. وهذا صحيح وإنما على غير إطلاقه. غير أنه من المؤكد أن الأشخاص الذين يعملون في المجالات الأكثر خطورة من عمل الشرطة، لا يشاركونهم هذا الموقف العنصري الواهي. ويتصرف السواد الأعظم من رجال الشرطة كما لو أن إنفاذ القانون يجعلهم فوق طائلة القانون الذي يخدمونه.
قبل بضع سنوات، كنت ألفت كتاباً بعنوان «الاختراق الأزرق»، يدور حول ما يُطلق عليها أقدم قضية قتل جرى التحقيق فيها بصورة فعالة في الولايات المتحدة. ودارت حول وقوع جريمة قتل في عام 1935، وكان المشتبه به في ارتكاب الجريمة شرطياً قوياً وقتذاك. وعبر ثلاثة أجيال قام ضباط الشرطة بحماية المتهمين من زملائهم بالزي الشرطي. وعندما جاء أنتوني بامونتي، مأمور الشرطة من شرق ولاية واشنطن، ليحل القضية في نهاية المطاف عام 1989، واجه مقاومة ضروساً وقاسية من داخل هيئة الشرطة.
وكتب له ضابط شرطة أسبق رسالة تهديد جاء فيها: “ليس من حقك الإساءة إلى أي شرطي آخر أبداً”. وحتى في قضية القتل التي تجاوزت أكثر من 50 عاماً، كانت الرابطة الزرقاء بين رجال الشرطة أقوى من القانون نفسه.
إن تحطيم جدار الصمت الأزرق هو من بين الأشياء التي لا بد أن تحدث بغية إصلاح العيوب القاتلة في تطبيق وإنفاذ القانون. والأمر الآخر الأكثر صعوبة يتمثل في الاعتراف بأن النزعة العنصرية، مثلها مثل جدار الصمت، ذات جدور عميقة في جهاز الشرطة الأميركي.
وقف التمويل عن الشرطة ليس الحل. بل إنها فكرة سخيفة تماماً. سرعان ما شاعت حالة عارمة من العنف والفوضى الشديدة تلك المنطقة التي أعلنت أنها خالية من قوات الشرطة في مدينة سياتل خلال الصيف الماضي. وكان من بين ضحايا أعمال العنف عدد من الأشخاص الملونين. وقالت كارمن بيست رئيسة الشرطة في المدينة وقتذاك: “قُتل مواطنان أميركيان من أصول أفريقية في مكان كانوا يزعمون أنهم يعملون فيه لصالح حركة حياة السود مهمة في المدينة”.
يعد شعار «وقف التمويل عن الشرطة» من أسوأ الشعارات السياسية التي ظهرت حتى الآن. ولا يؤيد هذه الفكرة السيئة سوى 18 في المائة فقط من الشعب الأميركي، وذلك وفقاً لاستطلاع رأي جرى خلال الشهر الماضي. ومن الناحية السياسية، فإن كل ما يفعله مثل ذلك الشعار هو إلحاق مزيد من الضرر بقضية إصلاح الشرطة في البلاد، حيث يبدو أن يقوض من مواقف النواب الديمقراطيين في انتخابات الكونغرس بالعام الماضي.
إعادة هيكلة الشرطة، هي من الأفكار الجيدة للغاية، ولقد بدأت في الظهور في نيو أورليانز بدءاً من عام 2016، من خلال برنامج يدرب ضباط الشرطة على التدخل عندما يلاحظون أن زملاءهم الضباط يقومون بأمر سيئ. ويبدو أن البرنامج على وشك الحصول على فرصة أخرى في ولاية ماريلاند، لا سيما بعدما تجاوز المشرعين حق النقض (الفيتو) وأصدروا تشريعاً مهماً وكاسحاً على طريق إصلاح جهاز الشرطة الأميركي.
إننا نريد من كل ضابط شرطة أن يرتدي كاميرا للتصوير على سترته الرسمية. وإننا في حاجة أيضاً للحد الكبير من استفحال نفوذ نقابات جهاز الشرطة في البلاد، تلك النقابات التي تعد أكبر حماية معروفة لجدار الصمت الشرطي الأزرق. كما أننا في حاجة أيضاً إلى ضباط للشرطة من كل الأطياف الذين يدعمون ويؤيدون خطاب زملائهم المفتوح في مدينة مينيابوليس، الذين قالوا: «هذا ليس ما نحن عليه»… إذن، فأثبتوا ذلك فعلاً وليس قولاً!. إعداد “الشرق الأوسط”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.