الكابوس النووي القادم في آسيا والعالم

مقالات
د. إبراهيم غالي المستشار الأكاديمي، رئيس برنامج دراسات آسيا والمحيط الهادئ، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي

 

أن تتوصل روسيا الاتحادية وكوريا الشمالية، الدولتان النوويتان، إلى اتفاقية عسكرية تتضمن إشارات واضحة إلى الدفاع المُتبادَل؛ وأن يهدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام السلاح النووي أثناء الحرب مع أوكرانيا؛ وأن تكرر كوريا الشمالية استعدادها لخوض الحرب مع كوريا الجنوبية وتهدد بضرب البر الأمريكي بالصواريخ النووية؛ وأن تكون ترسانة الصين النووية حالياً هي الأكثر تنامياً بين دول العالم في ظل مساعٍ لتطوير شامل لقدراتها النووية بما ينذر بتحول في سياستها النووية القائمة منذ عقود؛ بحيث تصبح قطباً نووياً يسعى لتجاوز القطب الحالي، الولايات المتحدة، التي تعمل هي الأخرى على الحفاظ على سبقها النووي العالمي؛ وأن تقر العقائد النووية لكلٍ من الهند وباكستان وكوريا الشمالية بمبدأ الاستخدام الأول للسلاح النووي حتى في حالة نشوب حرب تقليدية؛ وأن يدعو أحد غلاة اليمين في إسرائيل إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة؛ وأن تطالب أصوات أوروبية بتوفير مظلة نووية حمائية للاتحاد الأوروبي مستقلةٍ عن حلف الناتو…. فكلها وقائع تشير إلى واقع جديد مختلف في آسيا، وفي مناطق أخرى بالعالم من أبرزها الشرق الأوسط وأوروبا، وتؤشر على أن كابوساً نووياً جديداً يلوح في الأفق، ولكن تظهر ملامحه الرئيسية في القارة الآسيوية.

هذه الملامح لا ترتبط فقط بالتهديد اللفظي باستخدام السلاح النووي، وهو ما كان قد اختفى بدرجة كبيرة في العقود الثلاثة الأخيرة؛ ولكنه يرتبط من ناحية أولى -وهذا موضع جدل داخلي يدور في عدة دول في مناطق الصراعات في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط- بإمكانية حيازة دول جديدة للسلاح النووي في المدى المتوسط أو الطويل. ويرتبط من ناحية ثانية بتطوير الدول النووية المُعلَنَة بشكل غير مسبوق لقدراتها النووية، الاستراتيجية والتكتيكية، ولكافة وسائل الإطلاق الممكنة، أي الثالوث النووي براً وجواً وبحراً، مع دمج كل ذلك بتكنولوجيات جديدة فائقة وبالذكاء الاصطناعي. ويرتبط ما سبق، من ناحية ثالثة، بتأسيس جديد لسباق تسلح نووي لتحقيق أهداف متفاوتة، وهو سباق سيفوق في حدته وأطرافه ذاك السباق المماثل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة.

ولا شك في أن أسباب هذا الطرح تتعدد بالنسبة لقارة آسيا على وجه التحديد، ففي القارة خمس دول نووية مُعلَنَة، الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، وقد تُضاف إليهم روسيا بحكم جغرافيتها الأوراسية، وفي القارة دول متحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اتفاقيات دفاعية ثنائية أو جماعية، أبرزها (اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وتايلاند، والفلبين) توفر لها مظلة حمائية أمريكية، سواءً أكانت تقليدية أم غير تقليدية.

وفي القارة مجموعة من الصراعات الكامنة التي قد تتحول إلى صراعات مسلحة في أي وقت، ففي شرق القارة: أزمة الصين وإعادة توحيد تايوان، ونزاعات الصين مع دول عديدة في بحري الصين الجنوبي والشرقي، والأزمة الدائمة في شبه الجزيرة الكورية، والصراعات التاريخية والنزاعات الجديدة بين الصين واليابان. وفي جنوب شرق القارة: النزاعات البحرية بين العديد من دول رابطة الآسيان مع الصين، وانقسام دولها بين حليف أمريكي وآخر صيني وثالث مستقل حتى تتضح الأمور، ومشكلات عديدة تطال الأمن البحري وأمن ممرات التجارة في أستراليا ودول جنوب شرق آسيا. وفي جنوب القارة: الصراع الحدودي الصيني الهندي، والصراع الهندي الباكستاني حول كشمير، وكلاهما أدى إلى تملُّك هذه الدول الأسلحة النووية، والتنافس على إقامة موانئ وقواعد عسكرية في الدول الجزرية في المحيط الهندي كما يبرز في حالات سريلانكا والمالديف؛ وفي وسط القارة: أفغانستان بمشكلاتها الأمنية اللامتناهية، والتنافس المحموم بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في جمهوريات آسيا الوسطى وبدء إعادة تشكيل توازنات دولية جديدة بهذه المنطقة، وتحولات المشهد الاستراتيجي في جنوب القوقاز. وفي غرب آسيا، وعلى نطاق جغرافي شرق أوسطي، ثمة أزمة البرنامج النووي الإيراني ومساعي إيران لامتلاك السلاح النووي، وبيئة إقليمية معقدة أمنياً وعسكرياً من واقع صراعاتها المختلفة خاصةً مع تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتملُّك إسرائيل للسلاح النووي منذ ستينيات القرن الماضي.

في القلب من هذه التفاعلات الصراعية والتنافسية، والتي لا تخلو بطبيعة الحال من تفاعلات تعاونية حتى بين الخصوم؛ بدأت تظهر تغيرات هائلة في بيئة الأمن التقليدية التي استقرت نسبياً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فثمة -على سبيل المثال لا الحصر- تحديث عسكري متسارع للصين يتوازى مع توسيع نطاق نفوذها الإقليمي وتعزيز مكانتها الدولية؛ وما يشبه التحالف الصيني الروسي الهادف إلى إعادة هيكلة النظام الدولي مع كافة العواقب الاستراتيجية للحرب الروسية الأوكرانية؛ وتهديدات أمنية مرتفعة الحدة بسبب انتهاج سياسة حافة الهاوية في شرق آسيا من جانب كوريا الشمالية؛ وتغيرات جوهرية في سياسات الدفاع وصناعاته وتعزيز قدرات الردع في اليابان وكوريا الجنوبية؛ وسياقات حديثة لتشكيل تحالفات أمنية ودفاعية بين دول آسيا المتشابهة في الاقترابات والرؤى سواءً أكانت مُوجَّهة ضد صعود الصين أم كانت مع هذا الصعود؛ وإعادة انتشار عسكري أمريكي في آسيا وإبرام اتفاقيات أمنية أو دفاعية أو شراكات استراتيجية جديدة مع بعض دولها…. وبالطبع يدور الجزء الأغلب من هذه التفاعلات الصراعية، الإقليمية وشبه الإقليمية في آسيا، في سياق أكبر وأشمل، هو التنافس بين الصين والولايات المتحدة على قيادة العالم مستقبلاً، وهو التنافس الذي امتد وطال كل شيء وكل مجال.

إن كافة هذه التطورات، بما تتضمنه من تفاعلات صراعية/ تنافسية، تطرح على سياق البحث والنقاش مجموعة ضخمة من التساؤلات والتصورات فيما يتعلق بالأسلحة النووية، والتي لم يَعُد مُستغرَباً أن تعود مجدداً ليجري الحديث عن “كابوس” نووي قادم أو عن “شبح” نووي فتاك. وفي هذا الصدد، وضِمْن قضايا تفصيلية متعددة، يُمكِن طرح النقاط التالية:

  • النقطة الأولى تتعلق باحتمالات تحوُل دول مثل: اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان “جمهورية الصين” إلى دول نووية، ولاسيما أنها تمتلك القدرات النووية التي تجعلها دول نووية في مدى زمني قصير. ينبع ذلك من تهديداتٍ تواجه اليابان من الصواريخ التقليدية والنووية لكوريا الشمالية والموقف العسكري القوي للصين في المنطقة وتصاعُد حدة النزاع بينهما حول جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي، ومن تهديدات نووية تواجه كوريا الجنوبية من جارتها الشمالية، ومن تهديدات لتايوان؛ إذا قامت الصين بمحاولة ضمها بالقوة المسلحة، كما ينبع من فارق قوة عسكرية تقليدية هائل لصالح الصين تجاه الأطراف الثلاثة.

وإذا كانت اليابان وكوريا الجنوبية تقعان تحت مظلة الردع الأمريكي المُوسَّع أو الممتد بحكم اتفاقيات الدفاع المشترك، فإن تايوان لا تتمتع رسمياً بهذه الميزة، والأهم أن الأطراف الثلاثة، مثل سائر حلفاء واشنطن في آسيا، تنتابهم توجسات حقيقية وثقة محدودة بشأن الردع الأمريكي، والذي قد لا يكون مضموناً في ظروف كثيرة؛ ومن ثم قد يسعون وفق شروط معينة، داخلية وإقليمية، إلى تبني خيار امتلاك السلاح النووي للاعتبارات الأمنية المحضة. وإذا كان الاقتراب الأمني كسبب لتفسير امتلاك الدول للسلاح النووي يقوم على مبدأ جوهري هو “الانتشار يُولِّد الانتشار” (ولو بعد وقت)؛ فإن ذلك لن يختلف كثيراً عن امتلاك الاتحاد السوفيتي للسلاح النووي بعد استخدامه في هيروشيما وناغازاكي من جانب الولايات المتحدة، ثم امتلاك الصين وبريطانيا وفرنسا هذا السلاح بسبب التهديد النووي السوفيتي، وامتلاك الهند له بسبب التهديد الصيني وهزيمتها في حرب 1962، ثم امتلاك باكستان له بسبب التهديد الهندي وهزيمتها في حرب 1971.

  • النقطة الثانية تتعلق بالصين والولايات المتحدة، فالتقارير الاستخباراتية الصادرة من واشنطن، وكذلك السلوكيات الصينية فيما يتعلق بتطوير القدرات النووية، تشير إلى تحوُل الصين منذ عام 2021 تحديداً، إلى نهج مختلف تجاه الأسلحة النووية يقود إلى حيازة قدرات تضاهي القدرات الأمريكية بحلول منتصف العقد المقبل، وإلى تغيرات مُحتمَلَة في سياستها النووية قد تشمل اعتماد المبادأة بالاستخدام، وإلى تطوير الثالوث النووي، ومنه غواصات جديدة تستطيع ضرب العمق الأمريكي. وبالمقابل، تقوم الولايات المتحدة بتحديث قدراتها وقواتها النووية على مُختلَف الأصعدة، ليس لمواجهة الصين فقط، ولكن من قبلها روسيا، التي تقوم هي الأخرى، في ظل خبرة الحرب الأوكرانية، بإجراء تحديث نوعي، لا كمي، لقدراتها النووية، مع انهيار كافة اتفاقيات ضبط التسلح النووي مع الولايات المتحدة. وهنا لا يبرر المنظور الأمني فقط هذا السباق الصيني الأمريكي النووي؛ بل ثمة منظور آخر معياري قد يكون على ذات القدر من الأهمية، وهو تعزيز المكانة الدولية من خلال الريادة النووية، كماً وكيفاً.
  • النقطة الثالثة تتعلق بالدول النووية الأخرى المُعلَنَة في آسيا، فالدائرة لا تنتهي بسباق نووي بين الصين والولايات المتحدة وروسيا؛ فكما أن الانتشار النووي يولد الانتشار؛ فإن قيام دولة نووية خصم بتحديث قدراتها النووية يدفع الخصم الآخر إلى إجراءات مماثلة؛ لذا فإن أي تطوير صيني سوف يوازيه تطوير هندي، علماً بأن هناك أربع دول لديها ثالوث نووي، هي الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند؛ ومن ثم تَشرَع الهند في تطوير كافة وسائل الإطلاق، خاصة الغواصات، وتعمل على تعزيز قدراتها وترسانتها لتحقيق الردع النووي الفعال تجاه الصين. بالمثل، وبالتبعية، تُطوِّر باكستان قدراتها النووية لردع الهند. وكذلك لا تتوقف كوريا الشمالية عن مساعي التطوير وزيادة عدد رؤوسها النووية وتحسين وسائل الإطلاق المختلفة مع تخوفها من شن حرب تقليدية أو غير تقليدية ضدها، قد تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها.
  • النقطة الرابعة تتعلق بالسياسات والعقائد النووية للدول المُعلَنَة، وهو ما يستلزم تحليل ومجاراة التحولات الراهنة؛ إذ تدخل في إطاره عدة قضايا أولها يرتبط بمبدأ الاستخدام الأول للسلاح النووي، وهو ما يكاد يطغى حالياً على كافة الدول النووية، حتى تلك التي لم تُعلِن ذلك رسمياً مثل الصين. وثانيها يدور حول فائدة حيازة الأسلحة النووية وشروط استخدامها، وهو ما يثير التساؤل بشكل خاص حول طبيعة وشكل وتوقيت الرد، أو الضربة الثانية؛ إذا فشلت نظرية الردع النووي واستخدَمَت إحدى الدول السلاح النووي بالفعل. وثالثها يتعلق بطريقة نشر هذه الأسلحة، وهذه قضية جوهرية تتعلق أيضاً بقرارات الحشد العسكري النووي والإجراءات الخاصة بتفعيل وسائل الإطلاق المحملة بقذائف نووية جاهزة عملياتياً، وتتعلق أيضاً بمن يتخذ هذه القرارات ويدير نظام القيادة والسيطرة على الأسلحة النووية.

إن كافة ما سبق هو غيضٌ من فيضٍ من أسئلة واقعية وتصورات افتراضية، تبقيان أمام حالة من اللايقين والغموض، شأنهما مثل اللايقين والغموض السائدان حالياً فيما تقوم به الدول النووية المُعلَنَة من تطوير لقدراتها ولترساناتها والنووية واستخدامها تكنولوجيات فائقة لتحديث هذه القدرات في البر والفضاء وفوق مياه وتحت قيعان البحار والمحيطات… ولكن المؤكد هو أن ثمة “كابوساً” نووياً قادماً؛ إذا ما بقيت هذه التفاعلات الصراعية تسير على المنوال ذاته في السنوات المقبلة!

 

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


تعليقات الموقع