اتجاهات مستقبلية

الرئيسية مقالات
مركز تريندز للبحوث والاستشارات

اتجاهات مستقبلية

 

الحمائية الدولية ومستقبل التجارة العالمية: من العولمة إلى الانغلاق

في عام 2025، يجد النظام التجاري العالمي نفسه في لحظة مفصلية؛ فالحمائية لم تعد مجرد استثناء عابر، أو رد فعل على أزمات مرحلية، بل أصبحت توجهًا واضحًا تعتمده دول كبرى، بعدما أعلن ترامب، مطلع أبريل، تعريفات جمركية جديدة على نطاق واسع. وفي ظل هذا التحول، لم تعد العولمة خيارًا توافقيًّا أو أفقًا مشتركًا للدول، بل تحولت إلى موضع مراجعة وشك؛ ما يفتح الباب أمام مرحلة تتسم بمزيد من الانغلاق والتكتلات الإقليمية.
منذ تسعينيات القرن الماضي، رسّخت العولمة الاقتصادية حضورها عبر تحرير الأسواق، وتوسيع التبادل التجاري، وتراجع الحواجز الجمركية. وقد أسهم ذلك في بناء ما عرف بـ”النظام التجاري الليبرالي”، القائم على حرية تدفق السلع ورأس المال، وبتنسيق من مؤسسات كبرى، مثل منظمة التجارة العالمية، التي تأسست في أول يناير 1995، وخلّفت معاهدات “الجات” لعام 1947. لكن هذا المسار بدأ يتعرض لتحديات عميقة، خاصة في العقد الأخير، مع عودة الخطاب القومي والحمائي إلى الواجهة.
جاءت هذه السياسات رد فعلٍ على اقتناعات متنامية داخل بعض الاقتصادات الغربية بأن العولمة أفادت المنافسين –خصوصًا الصين– على حساب الطبقات الوسطى في الداخل. فقد أدت موجات التصنيع الخارجي إلى فقدان وظائف محلية، وأثارت مخاوف بشأن الأمن الاقتصادي؛ ما عزز النزعة نحو الانغلاق، ومراجعة الاتفاقيات التجارية الكبرى.
وعليه، فقد استثمر ترامب هذه التحولات جيدًا. ومنذ حملته الانتخابية عام 2016، شنّ هجومًا علنيًّا على اتفاقيات التجارة الحرة، متوعدًا بإعادة التوازن إلى التجارة الخارجية الأمريكية. وبعد توليه رئاسته الأولى، انسحب في 2017 من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي (TPP). ولم تمر هذه الخطوات بهدوء؛ فقد قوبلت بردود فعل حادة من القوى التجارية الكبرى، وأدخلت الاقتصاد العالمي في موجة من التوترات والحروب التجارية، انعكست سلبًا على حركة التجارة العالمية، وأثارت اضطرابًا في سلاسل الإمداد، وأعادت مناخ عدم اليقين إلى الأسواق. وبعد رحيله، أعتقد كثيرون أنها استثنائية تاريخية لن تتكرر. ولكن مع عودته للرئاسة في يناير 2025، بدا أنه عازم على المضي قدمًا في سياساته السابقة، ولكن بطريقة أكثر حسمًا، ففرض حزمته الواسعة من التعريفات الجمركية، التي شملت أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة وأعداءها على حد سواء.
إن نظام بريتون وودز، الذي قادته الولايات المتحدة منذ عام 1945، أضحى محل شك واسع؛ إذ تحولت التجارة العالمية من أداة للتعاون إلى ساحة للتنافس الجيوسياسي، خاصة بين واشنطن وبكين. وتحولت الملفات التجارية إلى امتداد لصراعات النفوذ في مجالات، مثل التكنولوجيا والطاقة؛ وهو ما زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي العالمي.
استنادًا للتحولات الراهنة، فإن النظام التجاري العالمي والعولمة محل مراجعة؛ إذ يبدو أن الدول تتجه نحو نماذج جديدة من الانفتاح الانتقائي. ومع ذلك، فإن النظام العالمي لايزال يراوح بين مسارين متناقضين: الأول يدعو إلى إعادة صياغة نظام أكثر توازنًا وعدالة، فيما يتجه الآخر نحو الانغلاق وفرض المصالح الوطنية على حساب التعاون الدولي. وفي ظل هذه المعطيات، يبقى السؤال الأهم: هل سينجح العالم في استعادة روح العولمة بتوازنات جديدة، أم إن زمن الانفتاح قد ولّى لمصلحة واقع اقتصادي أكثر تفككًا وانقسامًا؟


تعليقات الموقع