اتجاهات مستقبلية
“قوة سيبيريا” والاتجاه الروسي إلى سوق الطاقة الآسيوية
لكونها بمثابة الشريان لحركة الطاقة العالمية، تمثل خطوط الأنابيب عصبًا حيويًّا لنقل الطاقة، وخاصة نقل الغاز. ومشروع “قوة سيبيريا2” لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى الصين، عبر منغوليا، قد يقلب أسواق الطاقة رأسًا على عقب، ولاسيما بعد تحوُّل أوروبا عن الطاقة الروسية بعد الحرب في أوكرانيا، واعتمادها على مصادر طاقة من دول أخرى، لكن مشروع “قوة سيبيريا2” يتجاوز كونه مشروعًا لنقل الغاز إلى تقوية العلاقات بين موسكو وبكين.
وتتسبب كلٌّ من الأحداث الجيوسياسية، والحروب التجارية، والعقوبات الدولية في تعطيل حركة الغاز المسال الروسية، لكن شريان “قوة سيبيريا” يعزز أمن الطاقة وينوع مصادر الواردات للصين، ويتجاوز الحدود الجغرافية، ويخفض واردات الطاقة الآتية من طريق البحر الأكثر تكلفة، والمتأثرة بوقوع حرب أو حظر اقتصادي. كما أنه يعوض روسيا عن خسائرها في الأسواق الأوروبية، بعد انخفاض صادرات الغاز بنسبة تصل إلى 80%؛ ولهذا يمثل هذا الشريان أهمية اقتصادية للطرفين.
وتعود فكرة إنشاء خط غاز بين روسيا والصين إلى أواخر تسعينيات القرن العشرين. ويبدو بعد سنوات طويلة من التفاوض، أن روسيا والصين تمضيان باتجاه تنفيذ مشروع خط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا2”، الذي يربط شبه جزيرة يامال في القطب الشمالي الروسي بشمال شرق الصين، مرورًا بأراضي منغوليا.
والصين تعد أكبر مستهلك للطاقة، وعلى المدى الطويل، قد يحتل الغاز الروسي مكانة رئيسية في ميزان الطاقة الصيني، ففي حين كانت حصة الغاز الروسي في استهلاك البلاد حوالي 10%، فقد تصل إلى 20% بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، وفي التقديرات ستصل طاقة الخط إلى 50 مليار متر مكعب سنويًّا؛ أي ما يقارب صادرات خط “نورد ستريم1” المعطل، والذي كان يمد أوروبا بالطاقة، ولهذا لا يمكن اعتبار الاتفاق حول هذا الخط بين بكين وموسكو صفقة اقتصادية فقط، بل هو أيضًا دليل على التقارب الاستراتيجي، في وقت تزداد فيه الاضطرابات والتوترات الدولية.
ويعطي المشروع لبكين القدرة على موازنة اعتمادها على الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، مع الرسوم الجمركية الجديدة، لكن لن يدخل “قوة سيبيريا2” الخدمة قبل أوائل ثلاثينيات هذا القرن، ليعيد رسم خريطة سوق الغاز العالمية، فالمشروع يربط -استراتيجيًّا- الصين بروسيا، وهو رمز لتحولات كبرى في موازين الطاقة والاقتصاد العالمي، في وقت تُوجِّه فيه روسيا مواردها شرقًا بشكل كامل، بعد العقوبات الغربية.
ويعد “قوة سيبيريا2″ أكبر وأضخم مشروع غاز في العالم، والأكبر من حيث كثافة رأس المال، حيث قد تزيد التكلفة على 36 مليار دولار، بطول مسافة أكثر من 4000 كيلومتر، ويمكن اعتباره إضافة إلى مشروع ”قوة سيبيريا1“ الذي بدأت تدفقاته في عام 2019، وبلغت طاقة خط الأنابيب فيه 38 مليار متر مكعب، و”قوة سيبيريا2” قد يضاعف صادرات روسيا عبر خطوط الأنابيب إلى الصين.
والأسعار ستمثل عاملًا محفزًا، فعلى الرغم من عدم كشف معلومات كافية بشأنها، والترجيح بأن التسعير سيكون بحسب السوق العالمية، فإن ما يصل الصين عبر خط أنابيب “قوة سيبيريا1” هو من أرخص ما تستورده من الغاز، وفق تقديرات “بلومبيرغ”، لدرجة تصل إلى أنه أرخص بحوالي الثلث من الغاز الطبيعي المسال الذي تعاقدت الصين على شرائه، وأقل من نصف أسعار واردات الغاز الطبيعي المسال الفورية.
إن التقارب بين الصين وروسيا في الطاقة يأتي في سياق دولي ضاغط على روسيا، وهو يعدُّ محاولة من الصين لتنويع مصادر طاقتها، من دون الاعتماد المفرط على مورد واحد، ومشروع “قوة سيبيريا2” شريان حياة للجانبين؛ فهو ليس مجرد مشروع طاقة، وإنما هو تلاقي مصالح اقتصادية ودولية لقوى دولية شرقية وازنة في النظام الدولي.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.