عالم الأعمال الصينيّ والمفاهيم الجديدة

مقالات
خاص بالوطن عن "هارفارد بزنس" هنري-كلود دي بيتينيس

شهدت نهاية حقبة نموّ عجائبيّ في الصين، مع تباطؤ قطاعي العقارات والتصنيع، وتراجع نسبة النمو الاقتصادي إلى 7.4 في المئة، لتكون بالتالي الأدنى منذ العام 1990. وهي أوّل مرّة منذ العام 1999 يكون فيها النمو دون المستوى الهدف الذي حدّدته بيجينغ، والذي بلغ 7.5 في المئة .
وليس هذا مجرّد خلل، إنّما ذروة توجّه نحو انكماش النموّ، بقي مستمرّاً منذ سنوات. وقد بدأت مرحلة جديدة مع نضوج الصين كقوة اقتصاديّة خارقة، اعتاد الرئيس شي جين بينغ أن يطلق عليها تسمية “المفهوم الجديد لما هو طبيعي”. وبنظر بيجينغ، ثمّة تحدٍّ مستمرّ، يتمثّل بإدارة هذه المرحلة الانتقاليّة من الاقتصاد من اقتصاد قائم بمعظمه على الاستثمارات وموجّه نحو الصادرات، إلى آخر يلقى توجيهاً متزايداً من الاستهلاك.
تماشياً مع الجهود الهادفة إلى إعادة التوازن إلى الاقتصاد، يدير الحزب الحاكم تغييراً، قد يكون أدقّ حتّى من ذي قبل، للعقليّة القياديّة التي يروَّج لها بين أعضائه، يبدأ بالكوادر المحلّيين، وصولاً إلى رؤساء المؤسسات الحكوميّة الكبرى. والملفت أنّ بيجينغ، التي تسعى لمرافقة التحوّل عبر تحويل محور تركيزها من حجم النمو إلى نوعيّته، تسلّط أضواء متزايدة على المسؤوليّة الاجتماعيّة والتنبّه إلى السياق الاجتماعي. وفي الماضي، اتُّهم القادة المحليّون بإيلاء نمو إجمالي الناتج المحلي أهمّية أكبر من السلامة الماليّة الفعليّة، لأنّ التقدّم ضمن الحزب الشيوعي كان مرهوناً، في القسم الأكبر منه، بالمؤشرات الاقتصاديّة القصيرة الأمد. وخلال السنة الجارية، قامت حكومة شنغهاي بخطوة غير مسبوقة، واختارت عدم تحديد أيّ هدف لإجمالي الناتج المحلي.
وبدت إعادة غربلة الأولويّات واضحة أيضاً في القمع المتواصل للفساد داخل الحزب، الذي أقدم عليه الرئيس شي، في سياق حملة اتّسمت بقدر أكبر بكثير من الجدّية والاستدامة من جهود التطهير الداخلي التي باشرها أسلافه. ولم تكن الشركات الأجنبية معفيّة من الحرب على الفساد، بالنظر إلى أنّ شركات “دايملر”، و”مايكروسوفت” و”كوالكوم” تدخل في عداد الشركات المتعددة الجنسيات التي خضعت للتحقيق في الأشهر القليلة الماضية. وفي أيلول (سبتمبر) الماضي، فًرضت غرامة بقيمة 487 مليون دولار على مجموعة “غلاكسو سميث كلاين” ، بسبب مزاعم حول إقدامها على رشوة أطباء.
منذ أن تولّى الرئيس شي السلطة في العام 2012، صعُب عليه تقديم نفسه كرئيس يستجيب إلى رغبة شعبه، مع الإشارة إلى أنّ الميل نحو القيادة المسؤولة يشكّل جزءاً من الجهود المبذولة على صعيد العلاقات العامّة، التي تهدف إلى صقل مصداقيّة إدارته والحد من الامتعاض الشعبي. وفي هذا السياق، بإمكاننا أن نفترض أن بيجينغ تريد تجنّب نسخة محلية عن “ثورة المظلات” التي شهدتها هونغ كونغ.
ولكن في الوقت ذاته، ليس الأمور كلّها أوهاماً مبهمة وحسب. فبعد أن أقمتُ في شنغهاي ومارستُ مهنة التعليم طوال خمس سنوات فيها، لاحظتُ التزاماً قيادياً جدّياً بمعالجة بعض من المسائل الاجتماعيّة
التي جاءت كنتيجة غير مباشرة للنمو الاقتصادي المذهل الذي اختبرته البلاد، مسائل تشمل التلوّث، وإلحاق الضرر بالبيئة، وظروف المعيشة والعمل اليائسة في أغلب الأحيان لدى المواطنين المتنقّلين في المدن العملاقة. ومع أنّ الإدارات السابقة تحدّثت عن الخير العام، تُعرب الإدارة الراهنة عن رغبتها في جعل المسؤوليّة أكثر وضوحاً، وعدم جعلها تقتصر على كونها جلبة سياسيّة.
في الاقتصاد الناشئ الذي تتحدد معالمه اليوم، ستكون القيادة المسؤولة ضروريّة لضمان أداء جيّد ونجاح مستدام على الأمد الطويل، إمّا كخيار أو بدافع الحاجة، مع الإشارة إلى إقرار غربيّ متزايد بضرورة ضمان أداء فاعل في ثلاثة مجالات أساسيّة – الاقتصاد والمجتمع والبيئة. والملفت أنّ تحرّكا مماثلاً يُسجَّل اليوم في اليابان، وجنوب شرق آسيا وحتّى الصين.
سأقدّم في ما يلي بعض الاقتراحات التي من شأنها توجيه قادة الشركات الذين يأملون بتشكيل جزء من مستقبل الصين.
ثماني خطوات لضمان أعمال قابلة للاستدامة في الصين.
1) تطوير عقلية قيادية تستند إلى الغرض الأخلاقي، والطابع الخاص والفكر النقدي، على أن يكون القائد مرشداً، ولا يكتفي بتأدية دور المثال الأعلى.
2) تحديد وإرساء غاية شاملة في إطار مبادئ السلوك التي تعتمدها. اجعل العملاء محور هذه الغاية، وقُم بخوض منافسة في سبيل إرضاء العملاء.
3) اعرف قيمة التعليم على المستويات كافة وروّج للابتكار.
4) على الرغم من تجنّبك أساليب التحايل التي تُعرف بها العلاقات العامّة، اعمل ضمن نطاق مهنتك على صيانة صورة شركتك.
5) عزّز ثقافة مؤسسية ببعد أخلاقي قائم على احترام الطبيعة ومكافحة الفساد.
6) بعد أن تدرج المسؤولية الاجتماعية المؤسسية ضمن استراتيجيّة شركتك، تأكّد من أنّ ثقافة شركتك تعكس هذه الاستراتيجيّة.
7) لا تستنسخ أفعال الغرب، بل تعلّم من أخطائه.
8) طوّر شعوراً بالثقة بينك وبين جميع أصحاب الشأن الذين تتعامل معهم.
يفيد برنامج المقارنة الدولية لدى “البنك الدولي” بأنّ الصين سبق أن تخطّت الولايات المتحدة على صعيد المساعي الهادفة للتحوّل إلى أكبر اقتصاد في العالم، فخلال العقدين المنصرمين، استقطبت الصين اهتمام العالم برواية النجاح المذهلة التي اختبرتها، بعد أن أخرجت 500 مليون نسمة من دارة الفقر، وطوّرت بنية تحتيّة بأرقى المستويات، وخاضت مراحل انتقالية سياسية بالكثير من الهدوء. وفي سياق هذا كلّه، أظهر الصينيّون قدرة على اعتماد رؤية طويلة الأمد، وواصلوا تشجيع الواقعيّة من خلال إقدامهم على التنفيذ السريع والفاعل على الأمد القصير.
وبعد أن أصبحت بيجينغ تعطي الأولوية للقيادة المسؤولة وسط إدراكها التام لطبيعة التحديات، بات مجتمع الأعمال العالمي يملك كلّ الأسباب الممكنة لتوقّع تغيّر كبير والاستعداد له.


تعليقات الموقع