تسلط الضربة الأولى التي شنتها إسرائيل على ميناء الحديدة في اليمن، يوم 20 يوليو الجاري، وأسفرت عن سقوط ستة قتلى و84 جريحاً، الضوء مجدداً على مدى احتمالية توسيع الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، خاصةً أنها جاءت بعد يوم واحد فقط من هجوم بطائرة مُسيَّرة تبنته الجماعة الحوثية ضد تل أبيب؛ وأدى إلى مقتل شخص وإصابة أربعة آخرين. وأيضاً في الوقت الذي شنت فيه إسرائيل ضربتها على الحديدة، شنت هجمات موازية على مواقع لحزب الله في جنوب لبنان، الذي أطلق بدوره عشرات الصواريخ على أهداف إسرائيلية. وقد يتفاقم مشهد التصعيد في حال دخول مليشيات عراقية على خط التصعيد.
وفي حين يمكن تفسير تطور التصعيد الإسرائيلي الحوثي، بالفعل ورد الفعل، لكن مع احتمالات تكرار هذا التطور؛ فمن الوارد أن يؤدي إلى خروج المشهد الراهن عن السيطرة، في ظل تعثر مسار التهدئة ووقف الحرب في غزة؛ وهو المسار الذي قد يمتد إلى باقي ساحات المواجهة.
وتشير بعض وجهات نظر المراقبين إلى أن ارتفاع وتيرة التصعيد قد يشكل في حد ذاته اتجاهاً للضغط من أجل وقف التصعيد، بالنظر إلى الانعكاسات السلبية والخسائر المتوقعة والتي قد تفوق قدرات الأطراف. فبينما كانت الأنظار تتجه إلى تصعيد إسرائيلي مع حزب الله اللبناني، في ظل تأكيد وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، قبيل الضربات المتبادلة الحوثية الإسرائيلية، الفصل بين جبهتي الجنوب في غزة والشمال مع الجنوب اللبناني، على عكس موقف حزب الله المُعلن؛ فإن الهجمة الحوثية على تل أبيب قد تعني دفع إسرائيل إلى تفكير الاستدارة من غزة إلى لبنان مباشرة.
تراكم الحسابات الخطأ:
يتعين النظر إلى صعوبة ضبط الحسابات أو قراءة الأطراف للرسائل بالشكل المقصود، خاصةً إذا كانت الصواريخ والمُسيرات المفخخة هي التي تحمل تلك الرسائل. فعلى سبيل المثال، ربما أخطأت المُسيّرة الحوثية هدفها المقصود في إسرائيل؛ إذ ابتعدت مسافة محدودة عن مبني دبلوماسي أمريكي، كانت ستختلف تداعيات المشهد تماماً في حالة إصابته.
كذلك، فإن تحليل أبعاد الضربة الإسرائيلية على الحديدة قد يشير إلى أن تل أبيب تضع في اعتبارها منظوراً آخر؛ وهو ما يطلق عليه المراقبون الإسرائيليون “حلقة النار” التي تطوق بها إيران خصمها إسرائيل، وبدلاً من توسيع المواجهة مع الوكلاء يمكن التوجه مباشرة إلى الراعي الأصيل لهؤلاء الوكلاء، كنوع من “الضغط المضاد”. ففي مطلع يوليو الجاري، صرح قائد القوة الجوفضائية للحرس الثوري الإيراني، أمير علي حاجي زاده، بأن “يد إيران مكبلة وليست في وضع يسمح باتخاذ إجراء ضد إسرائيل”. لكن في المقابل، ووفق تحليل خطاب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيل هغاري، ورئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لا يمكن تجاهل مسؤولية طهران عن التصعيد ضد بلادهم.
الأذرع الطويلة:
شنت إسرائيل هجومها على ميناء الحديدة بمقاتلات (F-15، وF-35)، التي قطعت مسافة تتجاوز 1700 كيلومتر؛ وهو ما يشكل أطول ضربة هجومية لإسرائيل، وأكد نتنياهو أن الضربة تعكس قدرة “اليد الطويلة” لإسرائيل على الوصول إلى أهداف حيوية لدى الحوثيين. لكن في المقابل، تقول الجماعة الحوثية إنها هي الأخرى تمتلك الذراع الطويلة بقدراتها المتطورة من الصواريخ والطائرات من دون طيار.
في هذا الصدد، يتعين تقييم ميزان القوة العسكرية غير المتماثل بين الطرفين، خاصةً في ضوء الهجوم الأخير بطائرة “يافا” المُسيَّرة الحوثية. فبعد أكثر من 200 عملية هجومية منسوبة للحوثيين، وفق تقارير الجيش الإسرائيلي، تمكن الحوثيون من اختراق الدفاعات الإسرائيلية، عبر عملية خداع وتمويه؛ ونتيجة لخطأ بشري في التعامل مع هدف معادٍ قادم من البحر المتوسط. ومن اللافت أن أمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، كان قد كشف قُبيل الهجوم الحوثي مباشرة عن تطوير المُسيَّرات التي يمكنها اختراق الدفاعات الإسرائيلية.
على الأرجح، تعاني إسرائيل من ثغرة دفاعية في التصدي للمُسيَّرات المتطورة التي يطلقها حزب الله والحوثيون؛ لذلك قد لا تراهن تل أبيب على القدرة الاعتراضية الكاملة. وتشير تقارير الدفاع إلى أن إسرائيل لا تزال تعمل على منظومة “الشعاع الحديدي” لسد هذه الثغرة؛ ومن ثم ستبادر إلى عمليات هجومية موسعة على مصادر الهجمات من لبنان أو اليمن، وتصدر الأزمة لحزب الله والحوثيين. فحزب الله لا يمتلك القدرات الدفاعية الكافية للتصدي لهجوم إسرائيل واسع، بينما قد لا تمتلك الجماعة الحوثية قدرات دفاعية بالأساس.
وضمن حسابات المقارنة، هناك عامل الزمن وحمولة الذخائر؛ إذ لا يمكن مقارنة رحلة تقطعها مُسيَّرة في عشر ساعات برحلة يمكن أن تقطعها مقاتلات مثل (F35) إلى اليمن ذهاباً وإياباً في أقل من نصف تلك المدة. كما لا يمكن مقارنة الحمولات، ما بين مُسيَّرة “يافا” الحوثية (5 إلى 7 كيلوغرامات من المتفجرات)، وبين حمولة مقاتلة مثل (Eagle F15)؛ إذ تم إلقاء عشرة أطنان من المتفجرات في الهجوم.
كذلك تلمح تقارير إسرائيلية إلى أن المقاتلات تحركت على مدى منخفض مع الدخول إلى المجال اليمني؛ وهو ما يدعم موقف القيادة الأمريكية الوسطى بأنها لم تشارك في العملية، بالإضافة إلى أن إسرائيل تهدف إلى التأكيد أنها يمكنها الوصول إلى اليمن دون مراقبة أو دعم من أي طرف؛ إذ كشفت تلك التقارير أنها استعانت بقدامى الطيارين الذين لديهم دراية جيدة بهذا المسار لتنفيذ ضربتها الأولى.
وفي واقع الأمر، تتعين قراءة ما هو أكثر في تلك المقارنة ما بين “ذخيرة متسكعة” استهدفت موقعاً داخل إسرائيل في نهاية الرحلة، وبين بنك الأهداف الإسرائيلي في الحديدة؛ إذ تم استهداف مواقع عسكرية بالإضافة إلى خزانات النفط، ومحطة كهرباء رأس كثيب؛ وهي أهداف مكشوفة من السهولة بمكان لإسرائيل استطلاعها.
فتح جبهة جديدة:
قد يؤدي فتح جبهة قتال جديدة على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، إلى توسيع دائرة الحرب، في ظل عدم وجود كوابح للتصعيد والحسابات الخطأ. وفي هذا السياق، تمكن الإشارة إلى رهانات الأطراف بشأن فتح جبهة جديدة للحرب، كالتالي:
1- الولايات المتحدة وإيران: ثمة تسريبات تشير إلى تبادل واشنطن وطهران الاتصالات بعد الضربة الإسرائيلية على الحديدة، وأن الأولى طلبت من إيران وقف التصعيد بالنظر إلى التداعيات، بيد أن الأخيرة اتهمت الولايات المتحدة بدعم إسرائيل في تلك الضربة، كما أجرت طهران اتصالات مع الوكلاء في اليمن والعراق، تستطلع جاهزيتهم للرد الإسرائيلي المُحتمل.
وربما تعكس البيانات الصادرة عن الأطراف، صحة هذه التسريبات، لكن تتعين التفرقة ما بين اتخاذ القرار وبين الإجراء العملياتي أو الإخطار. فمن الواضح أن إسرائيل اتخذت قرارها بالهجوم على الحديدة بغض النظر عن استطلاع الموقف الأمريكي، وهو ما أكده بيان البيت الأبيض في هذا الصدد. لكن ربما يتعين عليها الإخطار، ولاسيما القيادة الوسطى المركزية التي تنخرط في عمليات بحرية وجوية في المنطقة، ولا يعني بالتبعية مشاركة القيادة الوسطى على نحو ما أفاد بيان الأخيرة.
سياسياً، ربما قلصت إسرائيل فترة اتخاذ القرار بالهجوم مقارنةً بما استغرقه قرار الرد على إيران في إبريل الماضي على سبيل المثال، وذلك بالنظر إلى رحلة نتنياهو المرتقبة إلى واشنطن خلال الأسبوع الجاري، والتي سيؤكد خلالها صحة توجهاته في التصعيد من منظور ما تشكله التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل من الجبهات المتعددة. وثمة تجاوب حذر من واشنطن، ما بين القبول بسياسة إسرائيل في الدفاع عن النفس، وفق قول وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، وبين المخاوف من تداعيات زيادة جبهات الحرب.
2- إسرائيل: بشكل عام، تركز تل أبيب على حسابات استعادة الردع الذي تآكل منذ هجوم حماس عليها في 7 أكتوبر 2023. ومع ذلك، تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن بلادهم لا تريد المغامرة بخوض حرب على جبهات الطوق في الجنوب والشمال، أو الجبهة البعيدة في اليمن؛ ومن ثم في حال الانتقال إلى حرب مفتوحة مع حزب الله اللبناني، فإنها لن تشتت جهودها بخوض حرب مفتوحة مع الحوثيين. لكن في كل الحسابات لا توجد أية إشارة إسرائيلية إلى صفقة تسوية تؤدي إلى هدنة أو اتجاه لخفض التصعيد.
3- الحوثيون: يبدو أن هناك متغيراً حسابياً لدى الحوثيين في العملية الأخيرة، لا يمكن استبعاده من دائرة الحسابات الإيرانية في نفس الوقت. فمن المتصور أن حسابات التصعيد تميل إلى معادلة التصعيد ما بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، والدور الذي يمكن أن تؤديه الجماعة الحوثية في هذه المعادلة؛ ومن ثم أصبح الربط الرئيسي بين جبهة حزب الله وإسرائيل في المقام الأول، حتى وإن ظلت ماكينة الدعاية الحوثية تركز على أن التصعيد يرتبط بجبهة غزة.
السيناريو التالي:
أعلن طرفا التصعيد الحالي، إسرائيل والحوثيون، إمكانية مواصلة الحرب على جبهة جديدة، ومع ذلك لا يعتقد أن حسابات الأطراف الفعلية ستنتقل إلى هذا السيناريو، حتى وإن تكرر المشهد على فترات متقطعة. فبالنسبة للحوثيين، فإن تكرار الضربات الإسرائيلية على البنية التحتية الخاصة بميناء الحديدة ومحطات الكهرباء وغيرها، يفوق احتمالهم لاستهداف المواقع العسكرية. ووفق التقديرات الأولية، قد تحتاج الجماعة الحوثية إلى ما يتراوح ما بين نصف عام إلى عام لإعادة بناء المواقع المستهدفة.
بالنسبة لإسرائيل، من الناحية السياسية ربما يحتاج نتنياهو إلى تأكيد وجهة نظره بأن بلاده تواصل الحرب بشكل اضطراري في مواجهة وكلاء إيران، لكن من الناحية العسكرية على الرغم من إظهار إسرائيل القدرة على توجيه ضربات إلى الحوثيين وحزب الله اللبناني في الوقت نفسه، فإن حسابات الحرب ستختلف، وستحتاج إسرائيل إلى عملية تعبئة تفوق متطلبات التعبئة في حال خوض حرب على الجبهة الشمالية مع حزب الله.
وتبدو المصلحة الأمريكية في ظل الظروف السياسية التي تمر بها إدارة الرئيس جو بايدن، في وقف حرب غزة، وإبرام صفقات بين إسرائيل وحماس من جهة، وإسرائيل وحزب الله من جهة أخرى، لكن واشنطن لا تمتلك القدرة على فرض هذه التسوية؛ ومن ثم ستواصل العمل في إطار مواصلة إدارة الأزمة وسياسة “الخطوة خطوة”، للوصول إلى التهدئة.
أما على الصعيد الإيراني، فقد تكون الرسائل التحذيرية لإسرائيل بشأن التحول من “حرب الاستنزاف” إلى “حرب شاملة” مع حزب الله، تنطوي على رد فعل مختلف من جانب طهران، في ظل تطوير القدرات الهجومية، وإسناد الوكلاء.
لكن الإشكالية ليست في طبيعة هذه الحسابات الخاصة بالسيناريوهات الحالية أو المُحتملة، بقدر ما يتعين النظر إلى الحسابات الخطأ التي تتراكم في مشهد التصعيد.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.