الجينومات المخلقة تُصمَّم وتُبنى من الصفر. هذا يعني أن قدر التغيير الذي يطال الجينوم، وبالتبعية سلوك الخلية، لم يعد محدودًا بقدرتنا على تحرير الحمض النووي القائم

تخليق جينوم بكتيري قادر على صد الهجمات الفيروسية

مقالات
بنجامين إيه. بلاونت:صحفي علمي

 

تخليق جينوم بكتيري قادر على صد الهجمات الفيروسية

 

 

 

 

 

يومًا بعد يوم، يكتسب العلماء قدرة متزايدة على بناء جينومات مُخلَّقة لخدمة أغراض تصميمية بعينها، وهذا يمكِّننا من إنتاج خلايا ذات خواص نافعة، لا نجدها في الطبيعة. وفي دراسةٍ نُشرت مؤخرًا على صفحات دورية Nature، أفاد أكوس نيرجس وزملاؤه1 بأنهم صمموا بكتيريا بحيث تكتسب مناعة ضد العدوى الفيروسية، ولتكتسب خواصَّ يمكن أن تفيد في الاحتواء البيولوجي الميكروبي. من شأن هذا البحث أن تكون له تضمينات علمية تتعلق بتطوير تطبيقات آمنة وفعالة في مجال التكنولوجيا الحيوية، وهو خير دليل على الآفاق الواسعة التي يفتحها مجال تخليق الجينومات.

خلافًا لتقنيات تصميم الجينومات التي يُعدَّل فيها جينوم قائم في خلايا حية، فإن الجينومات المخلقة تُصمَّم وتُبنى من الصفر. هذا يعني أن قدر التغيير الذي يطال الجينوم، وبالتبعية سلوك الخلية، لم يعد محدودًا بقدرتنا على تحرير الحمض النووي القائم.

سبق أن تمكَّن العلماء من تخليق جينوم2 لبكتيريا «الإشريكية القولونية» النموذجية Escherichia coli،ومما ميَّز هذا الجينوم أنه انطوى على تغيير في الطريقة التي تترجِم بها البكتيريا المعلومات المشفرة في حمضها النووي إلى بروتينات.

يحدد الحمض النووي ترتيب الأحماض الأمينية في البروتين ومحتواها، وتعيِّن سلاسل ثلاثٍ من قواعد الحمض النووي، التي يُطلَق عليها اصطلاحًا «الكودونات» codons، كما تشفِّر الأحماض الأمينية. وتكون هذه الشفرة موحَّدةً تقريبًا، ومحفوظةً تطوريًّا في الأحياء كافة. فلإنتاج بروتين، تُنسخ معلومات سلسلة الحمض النووي (DNA) إلى الحمض النووي الريبي المقابل (RNA). ويتعرف الحمض النووي الريبي الناقل (tRNA) على كل «كودون»، ومن ثم «يترجمه» إلى حمض أميني محدد، يُدمَج في السلسلة البروتينية في أثناء نموها. وهذا التشفير يحدث بكثافة، لأن معظم الأحماض الأمينية يمكن تشفيرها بعدة «كودونات»؛ الأمر الذي يجعل بالإمكان حدوث تبديل بين «الكودونات» المتكافئة، مما يغير سلسلة الحمض النووي، مع الحفاظ على محتوى الحمض الأميني.

بتبديل «الكودونات» على مستوى الجينوم، صُمم جينوم «الإشريكية القولونية» المخلق، بحيث يخلو تمامًا من ثلاثة «كودونات» معينة. عادة ما يُشفِّر اثنان من «الكودونات» الحمض الأميني المسمَّى «سيرين» serine، بينما يُصدر «الكودون» الثالث الأمر بوقف تكوين البروتين. وما يحدث في هذه الحالة أن الحمض النووي الريبي الناقل، المسؤول عن ترجمة هذه «الكودونات» المستبعدة، يُزال من الخلايا، أو يُعاد توظيفه لأداء مهمة جديدة. هذه العملية، التي يعاد فيها تشفير الجينوم لتغيير الطريقة التي تفسر بها الخلية شفرة الحمض النووي، لها نتائج عديدة، لا تقتصر على طريقة تعامل الخلايا مع الفيروسات.

تفتقر الفيروسات بطبيعتها إلى الموارد التي تجعلها قادرة على إنتاج البروتينات التي تحتاجها للتناسخ ومهاجمة خلايا العائل. فبدلًا من ذلك، تسطو على موارد العائل، بكل ما يملك من أحماض نووية ريبية ناقلة. وما يحدث في هذه الحالة، في الخلايا المخلَّقة التي نُزِع من جينومها بعض الأحماض النووية الريبية الناقلة، هو أن المعلومات الجينية للفيروس لا تترجَم ترجمةً سليمة، مما يجعل الفيروس غير متوافق مع العائل. وقد أشار بحث سابق إلى أن الخلايا التي تحتوي على جينومات مخلَّقة، وأزيلَ منها بعضُ الأحماض النووية الريبية الناقلة، يمكنها تلافي العدوى عند تعريضها إلى فيروسات معينة3.

وفي هذه الدراسة التي بين أيدينا، حدد نيرجس وزملاؤه فيروسات من عينات مأخوذة من البيئة ومن مياه الصرف الصحي، تحمل نُسخها الخاصة من الأحماض النووية الريبية الناقلة، وأشاروا إلى أن هذه الفيروسات لا تعتمد على الأحماض النووية الريبية الناقلة للعائل، ومن ثم يمكن أن تصيب الخلايا وتعيد تشفيرها. ومن هنا، فمن أجل حماية الخلايا المصمَّمة جينوماتها من هذه الفئة من الفيروسات، طوَّر فريق الباحثين أحماضًا نووية ريبية ناقلة تُغيِّر الرابط بين شفرة الحمض النووي وبين المحتوى البروتيني. وهذه الأحماض النووية الريبية الناقلة تتعرَّف على اثنين من «الكودونات» المُزالة من الجينوم المخلَّق. ومع ذلك، فبدلًا من ترجمتهما إلى الحمض الأميني «سيرين»، المحب للماء، خلال عملية تجميع البروتين، مثلما يحدث عادةً في أثناء عمليات التشفير الجيني العام، نجد أن الأحماض النووية الريبية الناقلة توجِّه إلى إدماج الحمض الأميني «ليوسين»، الكاره للماء (الشكل 1-أ).

ثمة آثار تترتب على هذا التغيير إذا ما أُدخِل إلى الخلايا أي سلاسل حمض نووي تحتوي على «الكودونات» المناظرة «للكودونين» اللذين تميزهما الأحماض النووية الريبية الناقلة. فمن الراجح، في أثناء عملية تخليق البروتين، أن يؤدي إدماج حمض «الليوسين»، الذي يختلف في خواصه الكيميائية عن حمض «السيرين»، إلى إحداث تغيير في بنية البروتين وخواصه، متسببًا في تعطيله. ونتيجة لذلك، نجد أن هذه البكتيريا المخلَّقة الجينوم تتحدث بـ«لغة» تخالف اللغة التي تتحدث بها باقي الكائنات في الطبيعة، بما فيها الفيروسات.

وفي دراسة موازية4، أجراها الفريق المسؤول عن تخليق جينوم «الإشريكية القولونية»، أشار الباحثون إلى أن هذه الطريقة كافية لمنع العدوى بفيروسات مختارة، تمتلك أحماضها النووية الريبية الناقلة الخاصة. ولكن المثير للدهشة هو أن نيرجس وزملاءه وجدوا أن الفيروسات التي عزلوها تستطيع رغم ذلك إصابة الخلايا ذات الأحماض النووية الريبية الناقلة المعدلة، وقتلها. وبإجراء المزيد من التحليل للخلايا أثناء تعرضها للعدوى، تبيَّن أن الأحماض النووية الريبية الناقلة المشفَّرة في الفيروس كانت تُنتَج بكميات كبيرة، وسرعان ما فاق عددها عدد الأحماض النووية الريبية الناقلة في العائل، مما أدى إلى تجمُّع معظم بروتينات الفيروس على نحو سليم، وتفعيلها.

واستجابةً من العلماء لتفوُّق أحماض الفيروس النووية الريبية الناقلة، قرروا أن يعيدوا توجيه تلك القوة لترتد إلى الفيروسات الغازِيَة، عن طريق أخذ أحماض الفيروس النووية الريبية الناقلة، وتوليد نُسَخٍ جديدة منها، لتحويل شفرة حمض «السيرين» بالقوة إلى شفرة «ليوسين». وبواسطة هذه الأحماض النووية الريبية الناقلة البديلة، المأخوذة من الفيروس، تمكنت خلايا البكتيريا المصمَّمة من إدماج الأحماض الأمينية «الخاطئة» في بروتينات الفيروس. لم تستطع الفيروسات الإشكالية، ولا غيرها من الفيروسات الأخرى التي خضعت للاختبار، أن تتغلب على هذا «الحاجز اللغوي» الجزيئي، ومن ثم لم تتمكن من إصابة الخلايا المصمَّمة بالعدوى.

ومسألة أخرى لا تقلُّ أهمية، وهي أن الباحثين يرون أن البكتيريا ذات الجينوم المخلَّق المصمم، التي تملك هذه القدرة غير المسبوقة على تلافي العدوى الفيروسية، لديها ميزة تُنافس المجموعات البكتيرية الطبيعية. ومن هنا، فقد تفرض تلك الكائنات الدقيقة تحدياتٍ خطيرةً إذا ما أُطلِقت خارجًا عن طريق الخطأ في بيئة غير مُتحكَّم فيها.

ولهذا السبب، شرع الباحثون في تعزيز الأمن البيولوجي للسلالات المصمَّمة، من خلال الإمعان في استغلال تغييرات «الكودونات» التي أجْرَوها في الجينوم المخلَّق. وهنا، بنى نيرجس ورفاقه على ما توصلوا إليه في بعض أبحاثهم السابقة5، فجعلوا السلالات «تُدمن» حمضًا أمينيًّا مخلقًا، يُشار إليه بالاسم l-4,4’-biphenylalanine، أو بالاختصار: BipA. عُدلت الخلايا لتميز «كودونًا» أعيد توظيفه ليوجه بإدماج الحمض الأميني BipA في بروتين تحتاجه خلايا البكتيريا للبقاء على قيد الحياة، بما يحصر نمو الميكروب في البيئات التي تُزوَّد بهذا الجزيء غير الطبيعي (الشكل 1-ب).

في النهاية، برهن الباحثون على أنه يمكن استخدام استراتيجيات إعادة التشفير في منع انتشار الحمض النووي المخلَّق في تسلسلات تُدعى العناصر الجينية المتحركة. عادة ما تتناقل الميكروبات المعلومات الجينية فيما بين الخلايا بطرق متعددة، بما في ذلك نقل جزيئات حمض نووي حلقية تُسمى «البلازميدات»، وهي عناصر يستخدمها الباحثون في نقل الحمض النووي إلى الخلايا. أنشأ الباحثون مجموعة من «البلازميدات»، تستخدم لغة «الكودونات» المعدلة في الخلايا المصمَّمة، من أجل تشفير المكونات اللازمة لتناسخ «البلازميد» في البكتيريا. لا تعمل هذه «البلازميدات» إلا في الخلايا التي لها جينوم مخلَّق وأحماض نووية ريبية ناقلة مصمَّمة، وهو السيناريو الذي يحُدُّ على نحوٍ مدهش من خطر انتقال الحمض النووي المصمَّم دون قصد إلى المجموعات البكتيرية في الطبيعة (الشكل 1-ج).

في الوقت الراهن، يتطلب إنشاء جينوم مخلق فعَّال مجهودات هائلة، ولم تكتمل حتى الآن سوى محاولات معدودة لإنشائه. فما نملكه من إمكانات على هذه الجبهة يتنامى ببطء، ويُتوقع الانتهاء في السنوات القليلة المقبلة من تطوير جينوم مخلَّق كامل لخلية حقيقية النواة (أي خلية تحتوي على نواة)6، وما زال العمل على مشروع جينوم بشري مخلَّق جاريًا7. وكلما زاد عدد مشاريع تخليق الجينوم، وحجمها، والمدى الذي تطمح إليه، ستزيد بالتبعية قدرتنا على دراسة البيولوجيا والتحكم فيها. والنتائج المبهرة التي تحققت من خلال إعادة توظيف «الكودونات» في هذا البحث، ستكون بالغة الأهمية في مجال التكنولوجيا الحيوية البكتيرية، التي يمثل لها التلوث الفيروسي مشكلة دائمة وباهظة الثمن.

أما التأثير الأهم لهذا البحث، فسيتمثل – على الأرجح – في منح نقطة انطلاق لاستراتيجيات مشابهة في مجال تخليق جينومات كائنات أخرى. وإننا لنرى كيف أن منتجاتٍ طبية أساسية، مثل اللقاحات والبروتينات العلاجية، تعتمد اعتمادًا متزايدًا على أنظمة زرع الخلايا في البشر أو الثدييات المعرضة لخطر العدوى الفيروسية، مع تأثيرات مهمة تتعلق بالتكلفة وأمان المنتجات8. سيكون من المهم إجراء عمليات تصنيع موثوقة، ومتحكَّم فيها، بمأمن من مشكلات العدوى الفيروسية، وذلك لتعظيم التأثير الإيجابي لهذه الصناعات على الصحة والرفاه، مع ضمان كون هذه العمليات آمنةً، ومنضبطة، وتحظى بثقة العامة.

عن دورية نيتشر

 

 

 


تعليقات الموقع